لنتوجه إلى قلب الحدث؛ إلى إسطنبول وأنقرة. هاتان المدينتان العملاقتان، اللتان تشكلان الشريان الرئيسي للحياة الاقتصادية والسياسية في البلاد، هما الجائزتان الكبريان في الانتخابات المقبلة. واللافت للإنتباه أن المعارضة التركية تربح هاتين البلديتين منذ العام 2019، ولكنها تخسر دورياً في باقي الانتخابات، سواء أكانت رئاسية أو نيابية أو حتى نقابية!
ولنتخيل أن حزب “العدالة والتنمية” الحاكم بقيادة رجب طيب إردوغان تمكن من الفوز ببلديتي اسطنبول وأنقرة، فهذا يعني استعادة الهيبة والسيطرة والتحكم في كل شيء في تركيا. أما بالنسبة للمعارضة، فإن الاحتفاظ برئاسة واحدة منهما ـ بالحد الأدنى ـ يُعتبر بمثابة نجاح معنوي يؤكد للعالم أجمع: “ليس الجميع مؤيداً لإردوغان وسياساته في تركيا”، وقد يُمهد الطريق لإزاحة الرجل التركي الأقوى ومؤيديه عن السلطة في الانتخابات الرئاسية والنيابية المقبلة.
ولكن، حتى الآن يشي سلوك إردوغان أنه ليس خائفاً بأن يُزاح عن السلطة في المستقبل، إذ أعلن في الثامن من آذار/مارس الحالي بأن الانتخابات البلدية “هي آخر انتخابات لي بموجب التفويض الذي يمنحه القانون. النتيجة التي ستتمخض عنها هي نقل الإرث إلى أشقائي الذين سيأتون من بعدي”.
المعركة البلدية في تركيا ليست مجرد معركة على المناصب والسلطة المحلية، بل هي معركة على روح تركيا ومستقبلها السياسي، وتؤثر على التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية
قد يكون إعلان إردوغان هدفه استعطاف الجمهور لتحفيزه على المشاركة في الإنتخابات البلدية، أو قد يكون إعلان هزيمة مبكرة، ولكن الأكيد هو أن تاريخ مغادرة إردوغان للسلطة في تركيا قد حدّده هو بنفسه، أي عند انتهاء ولايته الرئاسية الحالية في ربيع العام 2028.
معركة إسطنبول
لنلقِ نظرة على حلبة الصراع الانتخابي. ستكون إسطنبول، التي تضم خُمس سكان تركيا (حوالي 18 في المئة من الأتراك مسجلين انتخابياً في إسطنبول)، “أم المعارك” وأكثرها تنافساً بين حزب “العدالة والتنمية” الحاكم من جهة، ورئيس البلدية الحالي أكرم إمام أوغلو، المدعوم من حزب “الشعب الجمهوري” العلماني المعارض من جهة أخرى.
لا تُظهر أبرز نتائج استطلاعات الرأي رأفة بمرشح الحزب الحاكم في المدينة، ولا تظهر، كذلك، أي مرشح ثالث قريب حتى من الصدارة.
ويواجه حزب “العدالة والتنمية” تراجعاً في شعبيته في المدن بسبب التضخم المالي المتزايد والمشاكل الاقتصادية المتفاقمة، وبدرجة أقل بسبب تراجع نفوذ تركيا وتبدده في محيطها الإقليمي، وذلك على عكس سكان الأرياف الأكثر محافظةً في المجال الاجتماعي، والأقل تأثراً بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا.
ويُراهن إردوغان على سجله الحافل بالمشاريع العمرانية الكبرى، بالإضافة إلى خطابه القومي الإسلامي، ويعتبر استعادة مدينة إسطنبول التي كان يوماً رئيس بلديتها (1994-1998) بمثابة استفتاء على زعامته. أما مرشح حزبه، فهو الوزير السابق للبيئة والتخطيط العمراني مراد كوروم (47 عاماً). هذا المرشح قدّم برنامجه الانتخابي بشكل مثير للجدل في شهر شباط/فبراير الماضي، وضمّنه العديد من الوعود المتعلقة بتنفيذ مشاريع عمرانية ضخمة جداً، كما إعفاءات ضريبية كبيرة، مما دفع بالكثيرين من معارضيه للقول بأن برنامجه أقرب إلى رشوة انتخابية وليس بوعود قابلة للتنفيذ حقاً.
من جانبه، يحتل رئيس بلدية إسطنبول الحالي أكرم إمام أوغلو (52 عاماً) مكانة مميزة بين الشباب الليبراليين في المدينة، كما بين اليساريين والأقليات الدينية والإثنية، وهو نفذ عدداً من المشاريع خلال ولايته، إلا أنها شهدت كذلك ازدياد حالة الفوضى في إسطنبول، وخاصة في ضواحيها الآسيوية.
وبرغم ذلك، لحزب “العدالة والتنمية” نقاط قوة لا يملكها رئيس البلدية الحالي، وجلّها مرتبط ببنيته الحزبية القوية وخبرته في الحملات الانتخابية، بالإضافة إلى سطوة الحزب على الوسائل الإعلامية وامتلاكه موارد مالية ضخمة لتمويل حملته. كما أن شخصية إردوغان تحظى بشعبية واسعة، خاصة في المناطق ذات الطابع المحافِظ وأيضاً في ضواحي إسطنبول الفقيرة، مما يُعزز مكانته وقوة حزبه.
وتمثل إسطنبول خزاناً بشرياً واقتصادياً لا بل هي قلب تركيا النابض. وتُعتبر هذه المدينة الولاية الأهم في تركيا وتجمع في طياتها المشاريع الضخمة والثروات الاقتصادية، وتحظى بثقل سياسي كبير يعكس النفوذ وتوازن القوى في البلاد، كما تعكس تطلعات الأتراك المستقبلية وخيارات الجيل الشاب.
معركة أنقرة
على بُعد 350 كيلومتراً من اسطنبول، ستجري انتخابات بلدية أنقرة وسط تقدم واضح لرئيس بلديتها الحالي منصور يافاش (68 عاماً) حسب العديد من استطلاعات الرأي. ويُعد يافاش، الذي فاز في انتخابات 2019، من بين الشخصيات المرموقة في تركيا، وكاد أن يكون مرشح المعارضة ضد إردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وتتحد كتلة المعارضة في العاصمة أنقرة ضد مرشح حزب “العدالة والتنمية” تورغوت ألتينوك (62 عاماً)، الذي اختير لقربه من القوميين الأتراك، إذ كان مسؤولاً مهماً في حزب “الحركة القومية” سابقاً، ويمتلك شبكة علاقات وثيقة مع القوميين، حافظ عليها بعد انضمامه إلى حزب “العدالة والتنمية”.
وتفيد معظم استطلاعات الرأي في أنقرة، بما في ذلك تلك المقرّبة عادة من الحزب الحاكم، بأن يافاش سيحافظ على رئاسة بلدية أنقرة، بينما تفيد بعض الشركات عن تقدمه بنسبة 10 في المئة على منافسه، وهي نسبة كبيرة وكافية للفوز.
تمثل إسطنبول خزاناً بشرياً واقتصادياً لا بل هي قلب تركيا النابض. وتُعتبر هذه المدينة الولاية الأهم في تركيا وتجمع في طياتها المشاريع الضخمة والثروات الاقتصادية، وتحظى بثقل سياسي كبير يعكس النفوذ وتوازن القوى في البلاد
روح تركيا ومستقبلها
وفي سياق الانتخابات البلدية، تمتلك المعارضة مجموعة من الأدوات الفعّالة التي يُمكنها استخدامها للتأثير على نتائج الاقتراع. بداية، يُعتبر الاستياء الشعبي من الأوضاع الاقتصادية الصعبة سلاحاً قوياً يمكن للمعارضة استغلاله لجذب الناخبين ضد حزب “العدالة والتنمية”، مما يزيد من فرصها في تحقيق الفوز. كما أن توحّد بعض أحزاب المعارضة تحت راية واحدة يمثل خطوة استراتيجية مهمة، ويُعزّز من فرص نجاحها ويجعلها قادرة على التنافس بشكل متوازن مع الحزب الحاكم. إضافة إلى ذلك، فإن جاذبية الوجوه الحديثة التي تحكم المدن الكبرى تشكل عاملاً مهماً يمكن أن يساهم في جذب أصوات الناخبين الشباب.
وتُحدّد انتخابات بلدية العاصمة أنقرة العديد من السيناريوهات السياسية في المرحلة المقبلة، وبينها أن تتمكن المعارضة من إحداث خرق سياسي كبير مستفيدة من فقدان الحزب الحاكم جزءاً من شعبيته، وذلك على نحو يمكن أن يؤثر بشكل كبير على مستقبل البلاد.
وعندما تنتهي الانتخابات بفوز المعارضة في أنقرة، فإن ذلك يُمكن أن يُعَدِّل ميزان القوى السياسي في البلاد. فقدان الحزب الحاكم لبلدية العاصمة من جديد يُظهِر ضعفاً في قاعدته الشعبية ويزيد من ثقة ومكانة المعارضة. كما أن هذا الفوز يمكن أن يُفسَر على أنه رفض لسياسات الحزب الحاكم وإردوغان بشكل عام.
المعركة البلدية في تركيا ليست مجرد معركة على المناصب والسلطة المحلية، بل هي معركة على روح تركيا ومستقبلها السياسي، وتؤثر على التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن نتائج هذه الانتخابات تعكس الاتجاهات والقيم التي تحكم المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد. يتنافس الأحزاب والمرشحون في هذه الانتخابات بغية تحقيق أهداف تتعلق بتوجيه مسار البلاد وتحديد مستقبلها، سواءً كان ذلك من خلال سياسات الحكم المحلي أو الرؤى الوطنية الشاملة.