بداية، ما معنى كلمة “تفويض”؟
في قاموس المعاني كثير من الشروح عن التوكيل وترك الأمر حراً للتصرف فيه بنقل سلطات من سلطة عليا إلى سلطة أدنى. وفي مراجع لغوية أخرى نجد لجوء طرف الى منح آخر صلاحيات التصرف للقيام أعمال معينة خلال فترة محددة مع بقاء المسؤولية على الشخص المفوض (بكسر الواو).
وفي الشروحات أيضاً ان “التفويض” مفهوم اداري يخول من خلاله المرؤوس انجاز مهام محددة بهدف تخفيف الأعباء التي على عاتق الرئيس أو القائد (او الزعيم في الحالة اللبنانية) .
***
لماذا يبدو هذا الأمر شبه مستحيل؟ وما علاقة الصيغة الطائفية بتلك الاستحالة؟ وماذا عن الفساد المراد دولياً تفجيره من داخل الصيغة؟
أولاً، لنا في تجربة حكومة حسان دياب أسوة غير حسنة. إذ تشكلت من فريق اللون الواحد تقريباً، وبرغم ذلك لم تحصل على تفويض بالعمل حتى فشلت فشلاً ذريعاً. كان بعض وزرائها لا يصوتون أو يوافقون على أي طرح اصلاحي قبل مراجعة مرجعياتهم السياسية والطائفية التي بقيت ممسكة بخيوط “الماريونيت”، وتضع “الفيتوات” التي تريد حيث تريد. سلبوا تلك الحكومة “المسكينة” حق مفاوضة صندوق النقد بحرية، ومنعوها من تحديد حجم الخسائر وكيفية توزيعها. تسلطت عليها قوى الأمر الواقع السياسي والطائفي والمالي حتى خنقتها شر خنقة. وها نحن الآن أمام بحث شاق عن حكومة مكلف بها سعد الحريري قد تجمع معظم الاضداد المتناكفين المختلفين على كل شيء تقريباً، فكيف ستتفاعل الكيمياء في هذا الكوكتيل المتفجر؟
الجواب المحتمل لا يسر الخاطر بفعل تناقض شبكات المصالح الطائفية والحزبية المخيمة في كل الفضاءات السياسية منها والاقتصادية والمالية والاجتماعية.
وكي لا يغش أحد أحداً، السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هو: ما الفرق بين حزبيين اصحاب اختصاص وبين اختصاصيين تسميهم الأحزاب؟ انها تعمية لا أكثر، لنكتشف بلا أي تفاجؤ ساذج ان التفويض مشروط من بدايته، وليس كاملاً تحت أي ظرف بسبب سطوة المرجعيات على “الرعايا”، مهما علا شأنهم أو صغر.
هل تقسيم الحصص على المتخاصمين يمنح الحكومة العتيدة تفويضاً قوياً ام يفخخها تقويضاً عتياً يفجرها عند المفترقات المتناقضة الاتجاهات؟
ثانياً، طال جداً نقاش تشكيل الحكومة التى كلف بها الحريري، ممتداً أكثر من 5 أشهر حتى الآن. تخللته اتهامات واتهامات مضادة وصلت حد التشكيك بالأهلية والمصداقية والحيادية والميثاقية والأخلاقية والوطنية والكفاءة والنزاهة والاختصاص.. الى آخر الاتهامات الخطيرة التي ما انزل الله بها من سلطان. فكيف لأفرقاء متخاصمين الى هذا الحد “المجنون بلا ضوابط” الاتفاق على تفويض حكومة واطلاق يدها حرة في تنفيذ الاصلاحات المالية والاقتصادية القاسية جداً في المدى القصير، والمفصلية استراتيجياً في المديين المتوسط والطويل؟
ثالثاً، لا يتطرق نقاش المتخاصمين الآن من قريب أو بعيد الى البرنامج الاصلاحي، بل على الحصص الوزارية الطائفية فقط. فهل تقسيم الحصص على المتخاصمين يمنح الحكومة العتيدة تفويضاً قوياً أم يفخخها تقويضاً عتياً يفجرها عند المفترقات المتناقضة الاتجاهات، أو الخيارات الحادة المسارات لا سيما التي تتطلب تضحيات جسام من هذه الشريحة السوسيواقتصادية أو تلك الفئة المهنية أو الشعبية؟
رابعاً، “التفويض القوي” لا يترك مجالاً واسعاً في مجلس الوزراء للتصويت المتقابل بين الرأي والرأي الآخر. بل هو عبارة عن “حكومة مهمة” كما قال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون. و”المهمة” خريطة طريق موضوعة سلفاً في بنود المبادرة الفرنسية وروشتة صندوق النقد الدولي المبدئية. اذ لا مجال هنا للمناورة كثيراً على الطريقة اللبنانية بألا يموت الذئب ولا يفنى الغنم، وإلا فلا قروض ولا مساعدات حتى ينهار الوضع كلياً فينقشع الغبار عن قتامة مشهد فناء الأغنام وعواء الذئاب.
خامساً، انكشف سياسيو لبنان بعد مرور سبعة أشهر على المبادرة الفرنسية. فاذا كانت موافقتهم عليها صادقة كما يعلنون على الدوام فلماذا لا يتعففون إذاً ويزهدون قليلاً بالحصص الشكلية، ويلتفتون الى المضمون المطلوب والمعروف الوسيلة والغاية بغض النظر عمن ينفذه، سواء كان سنياً أو شيعياً، مارونياً أو ارثوذوكسياً، درزياً أو كاثوليكياً، علوياً او انجيلياً.. فمن نمنحه تفويضاً لتنفيذ الاصلاح ليس إلا أداة مرحلية (اختصاصي فني ماهر لكنه عابر سبيل في نهاية المطاف) مهما كان اسمه وجنسه وشكله وطائفته.
سادساً، يأخذ اعداد البيان الوزاري وصياغته في لبنان أبعاداً دراماتيكية في نقاش بيزنطي عقيم حول جملة واحدة أحياناً، مثل معادلة “الجيش والشعب والمقاومة”. فما بالك ببرنامج اصلاحي جذري تاريخي يطلب من اللبنانيين شد أحزمة الفقر والتقشف لسنوات وسنوات، ويطمح لتغيير وجه لبنان الاقتصادي لعقود وعقود؟ فالمرجح دولياً تضمين البيان التزامات واضحة وصريحة يوافق عليها المانحون والمقرضون أولاً هذه المرة ولا يقتصرعلى ورقة شكلية للاستهلاك المحلي نمزقها قبل جفاف حبرها كما العادة منذ الطائف الى اليوم.
يتطلب الاصلاح الجذري اطلاق يد الحكومة “المفوضة بقوة” في اقالات وتعيينات في القضاء والادارة العامة. فلا اصلاح بنفس الطاقم الذي عاث بعضه فساداً وهدراً، وفشل بعضه الآخر في وقف النزيف بينما فريق ثالث وقف يتفرج على السقوط في المهوار بلا حول له ولا قوة
سابعاً، لم يعد سراً ان لبنان قد يكون بحاجة الى حكومة تملك صلاحيات استثنائية. اذ على مجلس النواب، ربما، التصويت على قانون يجيز فيه لمجلس الوزراء اقرار مراسيم تدخل ضمن النطاق التشريعي. وبهذه الحالة يقوم البرلمان بتفويض صلاحياته التشريعية في قضايا محددة وضمن فترة زمنية معينة الى السلطة التنفيذية. وفي هذه الحالة ماذا يبقى من قاعدة “المجلس سيد نفسه” فيما البلاد عشية انتخابات نيابية بات يخافها نسبياً النواب وأولو الأمر الطائفي بعد حراك 17 تشرين وتداعيات الانهيار؟
ثامناً، تفويض الحكومة “بقوة” يعني مثلاً رجوع حاكم مصرف لبنان الى درجة موظف ينفذ سياسات جديدة كلياً معاكسة للسياسات الافلاسية السابقة. فلا مكان واسعاً له ليشارك في القرارات على هواه، او يحول دونها اذا خالفت هندساته “البونزية” المثرية لفئة والمفقرة لأخرى. فاذا كانت مماطلته في التدقيق الجنائي تنجح اليوم فقد يجد نفسه غداً أمام تنفيذ بلا قيد أو شرط لهذا الاستحقاق المفروض فرضاً بيناً في المبادرة الفرنسية والمطلوب نصحاً مشروطاً من صندوق النقد.
تاسعاً، يتطلب الاصلاح الجذري اطلاق يد الحكومة “المفوضة بقوة” في اقالات وتعيينات في القضاء والادارة العامة. فلا اصلاح بنفس الطاقم الذي عاث بعضه فساداً وهدراً، وفشل بعضه الآخر في وقف النزيف بينما فريق ثالث وقف يتفرج على السقوط في المهوار بلا حول له ولا قوة. والتفويض الاداري والقضائي الكامل شبه مستحيل في لبنان المحسوبيات، ولا تحمد عقباه في الصيغة التحاصصية اذا أخل بالتوازنات التي يتمسك بها الزعماء بأسنانهم واظافرهم لرعاية مصالحهم ومصالح طوائفهم أولاً قبل أي مصلحة وطنية عليا.
عاشراً، اذا كان الأفرقاء على خلاف عميق حول الضرائب وتقشف الموازنة والخصخصة وسعر الصرف والدعم والكهرباء والتهريب والحدود والقضاء والمناقصات والجمارك والموانئ والأملاك العامة البحرية وغير البحرية والتدقيق الجنائي وضبط التحويلات (الكابيتال كونترول) وتوزيع الخسائر ورسملة المصارف واعادة تكوين الودائع والسرية المصرفية وكيفية مكافحة الاحتكار والفساد ولجم الهدر وضرورات دمج المجالس والصناديق وصرف فائض الموظفين واصلاح أنظمة التقاعد ونهاية الخدمة. فكيف لهؤلاء الأفرقاء المتناحرين حد الادماء والإلغاء منح الحكومة تفويضاً قوياً ومستقلاً محمياً منيعاً بذاته، تتصرف بموجبه بحرية في كل ما سبق ذكره من عناوين خلافية متفجرة لها تداعيات جمة على مختلف القواعد الانتخابية الشعبية ورؤوس الاهرامات الزعاماتية؟
***
يبدو مما سبق أن مسار الإصلاح طويل ومعقد وشاق. ولن تحصل الحكومة “المنقذة” من الإنهيار الشامل على التفويض القوي المطلوب منحه داخلياً وطوعاً، فيأتي ذلك بضغط دولي وقسراً، ما قد يجنّب لبنان دمار الارتطام المبين نسبياً، ليرسفه في أغلال الإرتهان المهين مطلقاً.