عاش طاليس الملطي الفينيقي بين الأعوام 562 و640 ق.م ويُنسب إليه أنه أول العاملين في مجال إخراج العلم من عوالم الأساطير، ويتصدر قائمة الفلكيين والرياضيين، وسعى إلى تفسير الوجود وعناصر الطبيعة، فقال بأن الماء أصل الحياة، والأرض تطوف على سطح من المياه، وكل من وما في الأرض مملوء بالنفوس والأرواح.
قبل التطرق إلى ما يقوله كبار الفلاسفة والمشتغلين في الفلسفة وتاريخها غرباً وشرقاً عن أصول طاليس، من لزوميات البحث أن يُصار إلى استحضار ما يقوله الفيلسوفان العظيمان أفلاطون وأرسطو عن الجد الأول للفلسفة في العالم، والمقصود طاليس:
في “محاوارت بروتاغوراس”، يقول أفلاطون على لسان معلمه سقراط “الحكماء السبعة الذين اشتهروا في مدن اليونان قبل ظهور الفلسفة، تختلف قوائم أسمائهم بين حذف وإضافة، ولكن الأربعة التي تتفق القوائم كلها على عددهم هم طاليس وبتاكوس وبياس وسولون، والسائد الغالب عندهم هو الإهتمام بالأخلاق، واجتمع هؤلاء في معبد دلفي مسجلين هذه العبارات التي يرددها الجميع: إعرف نفسك بنفسك، ولا مغالاة”.
بالنسبة لأرسطو في “الميتافيزيقا”، واستناداً إلى النسخة المعربة عن اليونانية القديمة لمحي الدين مطاوع “أولئك الذين سبقونا في البحث في مجال الوجود وتفلسفوا حول الحقيقة، من الواضح أنهم توصلوا إلى مبادئ وأسباب معينة، ولذلك فدراسة نهجهم في البحث سيعود بالفائدة، وبالنسبة لأولئك الذي انخرطوا في العمل الفلسفي في بادئ الأمر، اعتقد معظمهم بأن المبادئ المادية هي الأساس لكل الأشياء، وتكونت منها الأشياء كلها، ومنها ظهر كل شيء للوجود أول مرة، على أية حال لم يتفق الجميع على نوع ورقم هذه المبادئ، فطاليس مؤسس هذا المذهب الفلسفي قال إن العنصر الأول هو الماء”.
وفي تعريب المقالات الخمس الأولى من “الميتافيزيقا” لأرسطو عن الإنكليزية كما في “مدخل إلى الميتافيزيقا” لإمام عبد الفتاح إمام “فكّر الفلاسفة الأول في المبادئ ذات الطبيعة المادية واعتقدوا أنها وحدها مبادئ الأشياء جميعاً، فهي التي تتكون منها الأشياء كلها ومنها ظهرت إلى الوجود لأول مرة، والتي تنحل إليها في النهاية ومع ذلك فهم لا يتفقون على عدد هذه المبادئ وطبيعتها، فطاليس مؤسس هذه المدرسة يقول إن هذا المبدأ هو الماء”.
من هو طاليس؟
عن هذا السؤال يجيب اليونانيون القدماء، وعلى رأسهم المؤرخ هيرودوتس المرجحة وفاته عام 424 قبل الميلاد، وديوجينس لائرتيوس المتوفي في القرن الميلادي الثالث كما يكاد يتفق الباحثون في أمره.
في تاريخه، يقول هيرودوتس “تنبأ طاليس بالكسوف في الوقت الذي حدّده، وصدق قوله، وطاليس الملطي ينتمي بجذوره البعيدة إلى الفينيقيين” وأما ديوجينس لائرتيوس والذي يصنفه الفيلسوف الألماني هيغل (1770 ـ 1831) في كتابه “محاضرات في تاريخ الفلسفة” بأنه أحد أهم المراجع حول المرحلة الأولى من الفلسفة، فيقول ديوجينس في موسوعته “مشاهير حياة الفلاسفة”:
“يقولون إن موخوس كان فينيقياً (من مدينة صيدا اللبنانية وأول من قال بتجزئة الذرة) ويتفق هيرودوتس وديموقريطس على أن طاليس ينتمي إلى أسرة فينيقية نبيلة تنحدر من نسل البطلين قدموس وأجينور، ويقال إن طاليس أصبح مواطناً من مواطني مدينة ملطية، وذلك عندما وفد إلى المدينة برفقة نيليوس الذي تم إبعاده عن فينيقيا”.
وإذ يورد ديوجينس آراء أخرى في جذور طاليس بإعتباره مواطناً أصيلاً من ملطية، فإنه بذلك يعكس مناخات الجدل التي دارت حول أول الحكماء، ومع ذلك ينقل عن كاليماخوس “أن طاليس مكتشف الدب الأصغر (كوكبة النجوم القطبية) وكان أول من أوضح مسار النجوم الصغيرة التي نسميها كوكبة العربة والتي كان الفينيقيون يبحرون على هديها” وهذه الكوكبة هي المعروفة في العالم القديم بنجمة فينيقيا.
الفيلسوف وعالم اللاهوت الإننكليزي روبرت كوبلستون (1907 ـ 1994) يتحدث في “تاريخ الفلسفة” عن طاليس فيقدمه على هذا النحو “مزيج من الفيلسوف والعالم العملي يمكن أن نراه في طاليس من ملطية، إن طاليس تنبأ بكسوف الشمس الذي ذكره هيرودوتس، وبحسب العلماء أن هناك كسوفاً رآه أهل اسيا الصغرى في أيار/مايو 585 ق.م، ومن بين الأنشطة العملية التي تُعزى لطاليس أنه وضع تقويما للملاحين وأدخل الممارسة الفينيقية لإتجاه مسار السفينة عن طريق الدب الأصغر”.
العلامة وول ديورانت (1885 ـ 1981) قد يكون أكثر العاملين في المجالين الحضاري والفلسفي والذين تعمقوا في حفريات البحث عن نشأة الفلسفة اليونانية، ففي الجزء السادس من “قصة الحضارة” يعيد أسباب النشأة إلى ملطية تحولت أغنى مدن العالم اليوناني في القرن السادس قبل الميلاد، بعدما امتزجت فيها شعوب وقبائل عدة وبعد أن تعلم تجارها وتجار المدن اليونانية الأخرى “من الفينيقيين إقامة المستعمرات التجارية، فأنشأوا العدد الكبير منها في مصر وإيطاليا، وأصبح ثراء المدينة وترفها مضرب الأمثال، وفي هذه البيئة المنعشة والباعثة على النشاط الذهني اثمرت بلاد اليونان الثمرتين اللتين امتازت بها عن غيرها، العلوم الطبيعية والفلسفة، ذلك أنه حيث تتلاقى الطرق تتلاقى الأفكار، وينشأ من اختلافها احتكاك فتنازع فمفاضلة فتفكير، فتمحو الخرافات بعضها بعضا ويبدأ التفكير المنطقي السليم”.
حسناً، ماذا بعد؟ يجيب ديورانت:
“كان أهل ملطية أنفسهم يسافرون إلى بابل وفينيقيا ومصر، وبهذه الطريقة دخل علم الهندسة المصرية وعلم الفلك البابلي إلى العقل اليوناني، والغرس الجديد كان له أباؤه وأجداده، وقد امتزجت بالفلسفة الواقعية خصائص التجار الفينيقيين واليونان وحكمة الكهنة المصريين والفُرس الأقدمين، وربما حكمة المتنبئين الهنود وعلم الكهنة الكلدان، وكان في الفلسفة اليونانية تياران يجريان جنباً إلى جنب، تيار ظاهر طبيعي النزعة، وتيار غامض صوفي، والتيار الأول كان أول رجاله العالميين طاليس، وأكبر الظن أنه وُلد في ملطية، وكان الدائر على ألسنة الناس انه من أبوين فينيقيين وتلقى معظم تعليمه في مصر والشرق الأدنى، وفيه يتمثل انتقال الثقافة من الشرق إلى الغرب”.
من المشتغلين العرب الكبار في الحقل الفلسفي يحل المصري عبد الرحمن بدوي (1917 ـ 2002) في المقدمة، ففي “ربيع الفكر اليوناني” أن مؤرخي الفلسفة انقسموا إلى قسمين حول أصول الفلسفة ونشأتها، فبعضهم توقف عند أرسطو الذي يتحدث عن طاليس من ملطية ولا يشير إلى جذروه الوطنية، وبعضهم أخذ بما قال ديوجينس لائرتيوس بأن أصل الفلسفة من الشرق، وبقي رأي ارسطو متغلباً “حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حين جاءت بحوث جديدة زعزعت هذا الرأي”.
وأما اللبناني ماجد فخري (1923 ـ 2012) فقبل أن يعرض في كتابه “تاريخ الفلسفة اليونانية” لسيرة طاليس يشرح مناخات ما قبله فيقول “تبدأ سيرة النظريات الكونية الرامية إلى تأويل صدور الموجودات، على سواحل آسيا الصغرى (أيونيا) في القرن الثامن قبل المسيح، وأولى النظريات تلك المنسوبة إلى أورفيوس وموزايوس وفريكايدس وهزيود، وقد تأثر أصحابها كما أثبتت الدراسات الحديثة، بالنظريات أو الأساطير البابلية والفينيقية، كان طاليس من أهالي ملطية ويرقى بنسبه إلى قدموس وأجينور ملك مدينة صور، طاف في أنحاء الشرق الأدنى حتى بلغ مصر، حيث تعرف على الكهنة المصريين وأخذ عنهم بعضا من المعارف الرياضية، واستنبط طاليس طريقة رياضية لقياس الهرم، والتي بنى عليها طريقته الرياضية في قياس مسافة السفن في عرض البحر”.
وعلى هذه الخطى يخطو العراقي جعفر آل ياسين (1932 ـ 2008) في “فلاسفة يونانيون” بقوله “إن طاليس يُعتبر أول الفلاسفة الطبيعيين ويذكر إسمه غالبا تحت قائمة الحكماء السبعة الذين يذكرهم أفلاطون، ويميل المؤرخ هيرودوتس إلى اعتباره فينيقياً” وفي “قصة الفلسفة” للمصري مراد وهبه (1926 ـ 1994) “في ملطية ظهر أول الفلاسفة طاليس، رحل إلى مصر وبابل وأخذ عن حكمائهما علم الهندسة، ووضع تقويماً للملاحين ضمنه إرشادات فلكية وجوية”.
وفي تقديم اللبناني ـ المصري يوسف كرم (1886 ـ 1959) لطاليس “في تاريخ الفلسفة اليونانية” أنه “احد الحكماء السبعة، وكانوا يعنون بالسياسة والأخلاق، انفرد بالعناية بالعلم، جال أنحاء الشرق، جاء مصر فأخذ علم المساحة وشغل بمسألة فيضان النيل، ودلّ أساتذته المصريين على طريقة لقياس ارتفاع الأهرام، وقال إن الماء هو المادة الأولى والجوهر الأوحد الذي تتكون منه الأشياء”.
عن نظريته حول كون الماء أصل الأشياء وبما يدل إلى جذور وثقافة طاليس الشرقيتين، يقول يوسف كرم “كان هذا القول مألوفا عند الأقدمين، من قبل قالت اسطورة بابلية: في البدء قبل أن تُسمى السماء وأن يُعرف للأرض إسم، كان المحيط وكان البحر، وجاء في قصة مصرية: في البدء كان المحيط المظلم أو الماء الأول، حيث كان أتون وحده الإله الأول صانع الآلهة والبشر والأرض”.
ومع هذا الرأي يقف عبد الرحمن بدوي حين يشير في “ربيع الفكر اليوناني” إلى الحضارات الشرقية السابقة لليونان “فالبحوث التي قام بها المستشرقون قد كشفت عن حضارة بابلية زاهية، ونحن نجد في إحدى القصائد التي بقيت لنا من نتاج هذه الحضارة، قصيدة تُسمى الخلق وفيها نجد كلاما عن بدء العالم، يشبه في ظاهره كلام طاليس، إذ يقول صاحب القصيدة: قبل أن يكون للسماء إسم، وقبل أن يكون للأرض إسم، كانت الأشياء كلها مختلطة في الماء، فهذا الكلام يشبه كثيراً ما قاله طاليس”.
ماذا يقول طاليس أيضاً؟
في “مشاهير حياة الفلاسفة” يقول اليوناني ديوجينس لائرتيوس إن طاليس قال:
ـ الإله هو أقدم الموجودات جميعاً لأنه غير مخلوق.
ـ الكون أجمل الأشياء لأنه يحوي الموجودات كافة.
ـ العقل أسرع الأشياء لأنه يتحرك بسرعة في كل مكان.
ـ الضرورة أقوى الأشياء لأنها تهيمن على كل شيء.
ـ الزمان هو الأكثر حكمة لأنه يكشف كل الأمور.
أخيراً؛ من مزاحات طاليس:
سُئل: أيهما أسبق الليل أم النهار؟ فأجاب: الليل أسبق بنهار واحد.