“قصّة عن الحبّ والظلام”: ماذا عن “اليهودي الجديد” وأزمة الهويّة؟ (2)

"أنتم يا من ولدتم في هذه البلاد، لا يمكنكم إطلاقًا أن تفهموا، كيف أنّ هذا التقطير يثني ويلوي تلك الأحاسيس، كيف أنّ هذا يبدو كالصدأ الذي يجعل صورتك البشريّة تتآكل رويدًا رويدًا، وكيف يُحوّلك هذا إلى منافق وكذّاب ومحتال ومراوغ مثل القطط" (عاموس عوز).

لا نستطيع الحديث عن الأدب العبري الحديث من دون التّطرق إلى عاموس عوز، أحد أشهر الأدباء الإسرائيليين عالمياً، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق. شهرته هذه تعود لأعماله الأدبيّة التّي ترقى فنيًّا إلى مصافي الأدب العالمي من جهة، وإلى آرائه الجدليّة التّي عرّضته للكثير من الإنتقادات من جهة أخرى.

قدّم عاموس عوز كتابه “قصّة عن الحبّ والظلام” كسيرة ذاتيّة يطلعنا فيها على حياته في القدس الانتدابيّة وفي الفترة التي تلت إعلان قيام دولة إسرائيل، وهو يبدو من خلال بوحه وقصص طفولته وشبابه يهوديًّا غارقًا في يهوديّته، لا يستطيع أن يُطلّ على العالم إلّا من شرفات هويّته وكلّ ما تحمله من صراعات وهواجس وأفكار، حتّى أنّ ذلك ينطبق على كلّ محيطه ومجتمعه فالسرد في كل المراحل الممتدّة والمتباعدة زمنيًّا يبدو مشبعًا بأبعاد المسألة اليهوديّة.

يضيء الكتاب على “مظلوميّة الشّعب اليهودي عبر التّاريخ”، وإساءة المعاملة التّي كانت تجعل صورتهم عن أنفسهم تتآكل. تعتبر خالته أنّ الاضطهاد حولّهم إلى منافقين ومراوغين كالقطط، وتذكر أنّهم في بولندا لطالما خافوا ألّا يكونوا جيّدين بما فيه الكفاية، واضطرّوا إلى الحديث بلغة بولنديّة صحيحة وفصيحة حتّى لا يلوّثوا اللّغة، دون أن تكون أرقى من اللازم حتّى لا يكونوا وقحين ومتسلّقين.

التّعويل على “الوطن الجديد” جلّيٌ في كلّ محطّات الكتاب. تحكي خالة الكاتب أيضًا عن انتظار قدومهم إلى هذه البلاد برغم معرفتهم بالمصاعب التّي ستواجههم، كالبطالة والحرّ الشّديد والمستنقعات إلّا أنّهم كانوا متأكّدين من أنّهم سيأتون ليصبحوا أكثريّة ويكونوا القدوة لكلّ العالم في كيفيّة التّعامل مع الأقليّات. تظهر آمال “اليهودي الجديد” عند انتظار أبناء الحي اليهودي قرار الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة بإقامة دولة يهوديّة على أرض دولة إسرائيل، وتوعّد أب الكاتب بانتهاء الزّمن الذّي يُضطهد فيه اليهود لأنّهم يهود فقط، فبالرغم من وجود الأعداء والحروب إلّا أنّ زمن الاضطهاد والملاحقات والمجازر ولّى من دون رجعة.

حين يحكي المؤلّف عن قتل الألمان والليتوانيين والأوكرانييّن لخمسة وعشرين ألف يهودي في غابة سوسينكي عام 1943، يستطرد في الهوامش أنّ هذا العدد مطابقٌ لعدد سكّان مدينة عِراد (النّقب) وأكثر من عدد جميع اليهود الذين قتلوا خلال مائة سنة من الحروب مع العرب، والمثير للغضب والحنق أنّ عدد الضّحايا الفلسطينيين الذّين سقطوا في الحرب الإسرائيلية على غزّة والمستمرّة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 صار ضعف هذا العدد (حوالي الخمسين ألفاً بين شهيد ومفقود).

يستخدم عاموس عوز مصطلح “اليهودي الجديد” للتّعبير عن الصهيوني المنتظِر لقيام الدّولة العبريّة والمؤمن بها. يتحدّث عوز عن إجادتهم للغات أوروبا وحبّهم لشعرائها وانتظارهم عصر وحدتها، من دون النّجاح في اختراق عدوانيّتها الباردة، ويتطرّق إلى الرّغبة الدّفينة لأبيه وكلّ أبناء جيله في البعث من جديد، والولادة بلون فاتح وشعر أشقر، أقوياء ومسفوعين وأوروبييّن، هذا المهاجر من أوروبا قسرًا إذًا متعلّق بها مرضيًّا، تربطه بها علاقة حبّ من طرف واحد. في الكتاب الكثير من التّفاصيل القائمة على تفضيلات عنصريّة، فألمانيا وبرغم وجود أدولف هتلر كانت بالنّسبة لوالدي الكاتب أكثر تحضّرًا من روسيا وبولندا، وفرنسا أهمّ من ألمانيا وأرفع منها، وبريطانيا أرفع من فرنسا.

أحد المعضلات المتعلّقة بروتين الحياة اليوميّة كان نوع الهدايا المرحّب بها لأعياد الميلاد أو إصدار كتاب، فالورود مثلًا هديّة جدليّة، فزهرة الدّلبوث هديّة محبّذة، فبالرغم من كونها غالية الثّمن لكنّها زهرة حضاريّة تشبه المسرح والباليه والأحاسيس المرهفة، أمّا شقائق النّعمان أو عصا الرّاعي فمجرّد أعشاب بريّة آسيويّة شبه متوحّشة!

يُعرّفنا الكتاب على علاقة المجتمع المهاجر من أوروبا بالوطن الجديد. جدّا الكاتب لوالديه مثلًا حاولا البحث عن مكان أكثر أوروبيّةً من بولندا التّي هاجرا منها وأقلّ آسيويّة من فلسطين، وعيش جدّته في القدس ارتبط بوسواس نظافة قهري، كان الشّرق بنظرها شرق الميكروبات، فالهواء مليء بالحشرات الآسيويّة والصيانة الصّحيّة لم تزل بعيدة عن كونها أوروبيّة. هوس النّظافة هذا، بحسب الكاتب، قتل جدّته التّي توفيّت في حوض استحمامها.

عند الحديث عن اللّغة العبريّة الحديثة يقول الكاتب إنّ العبريّة لم تصبح لغة قوميّة إلّا مع تعاظم كراهيّة اليهود في أوروبا أوائل القرن العشرين وشعورهم باستحالة وجود مستقبل لهم فيها، حيث تمّ إنشاء مدراس تعلّم الأولاد العبريّة، وظلّت هذه اللغة مضطربة عند الجيل الأوّل الذي هاجر إلى فلسطين، فمعظم محادثاتهم بقيت بلغات البلاد التّي جاؤوا منها، كالرّوسيّة والليتوانيّة والألمانيّة والبولنديّة وغيرها، وبالطّبع كان الكثيرون يتحدّثون باليديش (لغة يهود أوروبا وهي مزيج من لغات أوروبا بالعبريّة) إلّا أنّها كانت في نظر الكثير رطنة رواقيّة تثير الإشمئزاز وغير راقية. والدة الكاتب مثلًا في أصعب أوقاتها لم تغن بالعبريّة بل بالرّوسيّة أو البولنديّة أو اليديش، وجدّه لم يتعلّم العبريّة أبدًا بينما ظلّ يتغزّل بجمال القدس إلى آخر حياته باللّغة الرّوسيّة..

إقرأ على موقع 180  مصر والحركة الطلابية.. النخب لا تولد من الفراغ

تَعلّق اليهود المهاجرون بأرض موعودة لم تكن موجودة إلّا في خيالهم؛ ففي تلبيوت (حي الطّالبية في القدس) أرادوا إقامة نسخة من البلدات التي قدموا منها في أوكرانيا وبولندا وهنغاريا وليتوانيا، وأمّ الكاتب مثلًا لم تحب يومًا القدس وطابعها الكلاسيكي، وروحها ظلّت متعلّقة بروفنو في أوكرانيا حيث نشأت، حتّى أنّ الرّيف في عقل الكاتب ارتبط في ذهنه بالرّيف الأوروبي الذّي لم يره، لكنّ أمّه تحدّثت عنه في قصص المهد المستمّدة بزمانها ومكانها من غابات وروابي ومناخ وشخصيّات وتراث أوروبا، وفي اجتماعاتها بصديقاتها التّي استمرّت لآخر حياتها ظلّت تسترجع قصصها في شبابها في روفنو.

نُلاحظ أنّ الكاتب ناقم في داخله على أوروبا، فالعرب واليهود على السّواء ضحايا بطشها، بنظره يُمثّل العرب واليهود أبناء الوالد العنيف وهم بدلًا من الإتّحاد انطلاقًا من شراكة المصير، يرون في الأخ صورة جديدة لوجه المضطهِد. ففي الوقت الذّي يرى العرب في اليهود ممثّلين جددًا لأوروبا المستعمرة، متنكّرين في ثياب الصهيونيّة، يرى اليهود في العرب قُدامى القتلة، فهم ليسوا إلّا قوقازيّين ونازيّين متعطّشين للدماء التفوا بالكوفيّات، وبالنّهاية وبرغم عدم رغبة العرب بوجود اليهود على أرض فلسطين إلّا أنّ أوروبا أقوى بكثير منهم لذلك ستُبقي اليهود في فلسطين لتُجبر العرب على بلع ما تريد أن تتقيّأه.

يأخذك الكتاب إلى أسئلة بديهيّة تتمحور حول المسألة اليهوديّة التّي بُنيت عليها فلسفة الصّهيونيّة، فهل اليهوديّة دين أم عرق أم جماعة تداخلت عبر التّاريخ بالمسار والمصير، وكيف يمكن أن يُخلق شعب جديد دون أن يتشارك بلغة واحدة بعفويّة؟

يزيد في أهمية الكتاب أنه يُحاكي أزمة الهوية والإنتماء وهي أزمة قابلة للتعمق أكثر في المجتمع الإسرائيلي الذي يواجه أسئلة وقضايا وجودية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بدليل أرقام الهجرة التي يجري التكتم عليها والتي تجاوزت النصف مليون نسمة حتى الآن.

الكتاب يُقرَأ ويُدخِل قارئه في متاهات وتساؤلات جديدة، ولعل توفّره ضرورة في المكتبة العربيّة برغم أنّ الكاتب يتوجّه به بالدرجة الأولى للرّأي العام الأوروبي.

(*) الجزء الأول: “قصّة عن الحبّ والظلام”.. سردية صهيونيّة لتصدير المظلومية 

Print Friendly, PDF & Email
حوراء دهيني

كاتبة لبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  شال "حورية" على قصيدة محمود درويش الأخيرة!