مع “أمينتي” في حوار ساكت.. وجميل

سألت، وما زلت أسأل، إن كان ما أحكيه الآن وأنا فى هذا العمر عن أشياء رأيتها وأنا طفل لا يتجاوز السنتين من العمر، نابعا بالفعل عن ذاكرة أم هو تركيب مختلق لحكاية باستخدام تفاصيل كانت تروى أمامى فى مراحل أخرى.

مثلاً، أن أكون قد سمعت وأنا فى السابعة من عمرى أن أهلى كانوا يضعوننا نحن الرضع أو أكبر قليلاً فى قلوب أو بطون مشربيات البيت المطلة على أحد أهم شوارع الجمالية وأكثرها ازدحاما بالمارة والباعة المتجولين. يتركوننا هناك بالساعات مطمئنين إلى أننا حيث وضعنا لن نسبب إزعاجاً أو قلقاً لأهل البيت وضيوفهم.

الاحتمال قائم أن أكون قد اخترت عن عمد وإصرار الحكاية المختلقة لما فيها من رومانسية أو غرابة. المثير فى هذا الاحتمال أننى تمسكت به أمام المتشككين فى روايتى وبخاصة ما ورد فيها عن مصلين فى جلاليب بيضاء يخرجون من المسجد وعن بائع «بليلة» يقف بعربته على الرصيف المقابل.

***

تأتى أمينة، ابنة السنة أو أقل وأصغر الحفيدات، إلى بيتى صباح كل يوم جمعة. تأتى متأخرة عن بقية العائلة بحجة أنها تصحو مبكراً وتعود لفراشها بعد تناول افطارها لتستكمل النوم. تدخل دائماً لتعلن انبهارها بشىء ما أو بأحد ما. زحمة الصالون الذى أجلس فيه ربما كانت سبب الانبهار. رأيتها مراراً وهى تمر بعينيها على كل الوجوه مرتين على الأقل قبل أن تقرر لمن تلقى بنفسها فى أحضانه. ثوانٍ معدودة تقضيها فى هذا الحضن يعقبها البحث عن شخص آخر بين المرحبين بوصولها فاتحاً ذراعيه لها. ينتهى الأمر بتمردها على كل الحاضنين معلنة رغبتها أن تقف على ساقيها، وما زالتا فى سن التحدى المختلط بالارتعاش. على الفور تتحول القاعة إلى وضع طوارئ استعداداً لحماية أمينة المبتهجة بما حققت والدفاع عن الأشياء القابلة للكسر.

***

تقف قليلاً باحثة عن سند يساعدها على الانتقال خطوة نحو شخص أو شىء ثم نحو شخص أو شىء آخر. ثم تجلس وفى نيتها إعادة فحص الوجوه المحيطة بها. عند هذه اللحظة نتبادل، هى وأنا، النظرات. تنظر إلى ناحيتى نظرة تساؤل. هذا الجالس عند آخر طرف كنبة الصالون ليس كبقية الناس الذين تزدحم بهم الغرفة. «لم يتحرك كثيراً منذ وصولنا. لم ينهض لاستقبالى ولم يفتح ذراعيه عارضا الحضن الذى يعرضه غيره من الأهل وأتمناه أنا. هو أيضاً الشخص الوحيد فى الحجرة الذى لا يحمل شعراً على رأسه. يجلس فى نفس مكانه لا يبدله وعند الغداء يجلس على رأس المائدة، ساعتها لا أحد يعرض حضناً إلا الأطفال الأكبر منى العازفين عن الأكل والراغبين فى تدليلى والتعامل معى تعاملهم مع كائن فريد».

***

أحياناً وهى جالسة أمامى فى حجر أمها أو غير أمها أكتشف أنها تنظر ناحيتى وتبتعد بنظرتها فى حال التقت نظراتنا. تريد ألا أراها وهى تنظر ناحيتى، أو هذا ما تخيلت. مرة أخرى أجد نفسى متأثراً بحكايتى مع المشربية، أتخيل أنها وهى طفل رضيع أو ناهزت العام الأول من عمرها إنما تدرك تماماً ما يحدث حولها، وأنها، وهو الأهم، تستوعبه وتدقق فيه وتختار منه ما تحتفظ به فى خزائن ذاكرتها، خزائن هى فى طور التكوين أو التدريب والتأهيل. من خلالها، أقصد من خلال هذه الذاكرة، يتعرف الطفل الرضيع على أمه التى ترضعه. ومن خلال ما يتذكره عن الجوع وما يتسبب فيه من ألم يأتى بكاء الطفل وصراخه ساعة جوعه كرد فعل لا يقل عنفاً عن عنف الجوع.

***

قضيت وقتاً ممتعاً أراقب تصرفات أمينة إزاء مواقف متنوعة. اكتشفت وأظن أننى كنت على حق عندما قررت أنها تتألم حين تشعر بالإهمال. إهمالها كلياً فى أوقات انشغال الكبار ببعضهم البعض أو بعروض التلفزيون أو رسائل المحمول أو جرس الباب. أشعر كما لو أن هذه الطفلة لا تريد شريكاً لها فى حب الآخرين ولا حتى فى قسط ولو بسيط من اهتمامهم. تود لو سألتها إن كان هذا الشعور يعكس رغبة فى تملك أم خوف من الانفرادية والانعزال أم عدم ثقة في ما يخفيه المستقبل. سوف تجيبك بأنها منبهرة بهذه المخلوقات انبهارها بكل ما يأتى به الضيوف من دمى ولعب متنوعة الشكل والألوان.

***

ذهب ظنى فى وقت من الأوقات إلى أن أمينة ككل الأطفال الرضع إنسان بماض قصير تجسده ذاكرة حية. هذه الذاكرة، أى هذا الماضى، هو الذى يترجم لها الجوع ألماً والبكاء عند الجوع نفيراً وإنذاراً لمن يتصادف وجوده ولا يبالى، الجوع هو الذى يقودها إلى مصدر طعامها، وفى الغالب إلى أمها. أذكر بهذه المناسبة أن مصادر طعامى وأنا فى عمر الرضاعة كانت متعددة ومنها خالاتى وجارتنا المسيحية التى أرضعتنى مع ابنتها، وكثيراً ما حملتنى إلى كنيستها لأحصل على بركة القسيس وصلواته لأجل شفائى. هل حقاً أذكر أننى كنت طفلاً كثير البكاء والصراخ أم أننى سمعت من الأهل والجيران هذه الحكاية ضمن حكايات أخرى عن طفولتى ومراهقتى منها حكايات نهمى للرضاعة وزيارة الكنيسة وتعدد مصادر إطعامى وقلة ساعات نومى وصوت صراخى وتناوب الجارات على تهدئتى بحملى والمشى بى فى الشارع بالليل.

إقرأ على موقع 180  20 سنة في التيه العربي

***

صدقونى أننى بسبب تجربتى الخاصة مع ذاكرة الطفولة أجد نفسى فى حضرة الرضيعة أمينة أتصرف بحرص ومنتبهاً إلى أن أكون دائماً على مستوى الجد الوقور.

دليلى على أن أمينة سوف تتذكر وقائع من زمن رضاعتها هو أن نصيب الماضى البعيد فى ذاكرتى أكثر ثراء ووضوحاً من نصيب الماضى الأقرب. أضرب مثلاً. تابعت بكل انتباه واهتمام أكثر التفاصيل المتعلقة بالقمة العربية التى انعقدت بالمنامة قبل أيام قليلة، وعندما حان وقت الكتابة فى الموضوع، أى بعد يومين من انتهاء أعمال القمة، اكتشفت أن بعض المعلومات التى حفظتها فى ذاكرتى ضاعت وبعضاً آخر تشكّكت فى دقته فما كان منى إلا أن لجأت لأصدقاء حضروا المؤتمر، سألتهم ووجدت بما صرحوا به ما كان اختفى أو تآكل من ذاكرتى فى أيام قليلة. حدث هذا بينما انطلقت بذاكرة متوقدة وذهن حاضر أقارن هذه القمة الأخيرة بتفاصيل دقيقة لأول قمة شاركت فى الإعداد لها وحضرتها فى الدار البيضاء فى منتصف الستينيات الماضية، أى قبل ستين عاماً أو أكثر.

***

نعم يا أمينة، فمنذ أن بلغت من العمر عتياً راحت تفاصيل أحداث طفولتى تزداد وضوحاً على عكس ما حدث ويحدث لتفاصيل أحداث وقعت فى زمن أقرب. عندما تكونى فى مثل عمرى سوف تذكرين كل الأحضان التى مرت عليك وأنت رضيعاً ولكنك، ولحكمة ما، لن تذكرى إلا القليل جداً من أحضان يومك وأمسك.

يبقى عندى سؤال أتعبنى البحث عن إجابة له معقولة ومقبولة، يا ترى بأى لغة كانت أمينة ــ ابنة الشهور العشرة ــ تفكر؟

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  20 سنة في التيه العربي