“فى الوقت الحالى، يكثر الحديث حول فريق السياسة الخارجية المحتمل فى إدارة ترامب المستقبلية، إذا فاز فى الانتخابات الأمريكية المقررة في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم. وبشكل أساسى ينقسم فريق ترامب إلى فئتين؛ الأولى «المعسكر الدولي»، والثانية فئة «أمريكا أولا».
***
المعسكر الدولى فى الحزب الجمهورى يضم الصقور الذين يؤمنون بمبدأ رونالد ريجان «السلام من خلال القوة»، والذى يعنى معارضة روسيا والصين وإيران لكن مع الحفاظ على تحالفات الولايات المتحدة فى أوروبا وآسيا. يُستشهد بمستشار ترامب للأمن القومى السابق، روبرت أوبراين، ووزير الخارجية السابق، مايك بومبيو، على أنهما من أنصار هذه النزعة الدولية العدوانية. يضم المعسكر أيضا نيكى هالى – وليندسى جراهام – وميتش ماكونيل. ويمكن إضافة مستشار الأمن القومى السابق، جون بولتون، إلى القائمة، إلا أنه كان على خلاف مع ترامب ويصعب تجاوزه الآن. مبدأ ريجان يمكن أن ينطبق أيضا على السياسة الخارجية لإدارة بايدن.
أما فئة «أمريكا أولا» فهى لا ترغب فى أن تثقل كاهل الولايات المتحدة بتحالفاتها التقليدية، ولا يهتمون كثيرًا بالترويج العالمى النشط للقيم والديموقراطية، أو مراقبة البلدان الأخرى وصراعاتها. ويُعتبر روس فوت، مدير ميزانية ترامب السابق، وريتشارد جرينيل، القائم بأعمال مدير المخابرات الوطنية السابق وسفيره إلى ألمانيا، معادييْن لحلفاء الولايات المتحدة التقليديين والاتحاد الأوروبى، بينما يفضلان القوميين المحافظين مثل فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر.
يمكن للولايات المتحدة أن تتبنى استراتيجية الملاذ الأخير (أن تصبح فى الأساس خط دفاع ثانيا) فى حالة حدوث عدوان خارج عن السيطرة من قبل قوة كبرى تهدد توازن القوى العالمى، مثل روسيا المنهكة بالفعل التى تحاول السيطرة على أوروبا، أو تقدم الصين عبر تايوان لمهاجمة دول أخرى فى آسيا
***
فى فترة رئاسته السابقة، كان ترامب يضم كلا النوعين فى معسكر سياسته الخارجية. وادعى أنه ضد الحروب غير الضرورية، ومع ذلك فشل فى سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، بل وأظهر ومضات من العدوان ضد دول أجنبية بعينها، فاغتال ثانى أقوى زعيم فى إيران (قاسم سليمانى)، وهدد باستخدام الأسلحة النووية ضد كوريا الشمالية قبل أن تبدأ «رسائل الحب» بينه وبين الرئيس «كيم جونج أون».
كانت الرسائل المتبادلة بين الزعيمين من أكثر الرسائل روعة وغرابة فى نفس الوقت. إذ استخدم الزعيم الكورى الشمالى الإطراء فى بعض رسائله، جاء فى إحداها بتاريخ 30 يوليو/تموز 2018: فخامة السيد الرئيس، أعرب عن تقديرى العميق لفخامتكم لإيمانكم الراسخ بالعلاقات الممتازة التى أقيمت بيننا خلال القمة الأولى وبذْلكم الجهود للوفاء بالوعد الذى قطعتموه فى ذلك اليوم التاريخى». وتابعت الرسالة: «أشعر بالسعادة لأننى أقمت علاقات جيدة مع رجل دولة قوى وبارز مثل فخامتك، على الرغم من أن هناك شعورا بالأسف لعدم وجود إعلان متوقع بشأن إنهاء الحرب».
وفى رسالة منفصلة من ترامب بتاريخ 8 يناير/كانون الثاني 2019، كتب: «عزيزى الرئيس كيم، سمعت أنه كان عيد ميلادك وأردت أن أتمنى لك يومًا سعيدًا، وسنوات عديدة رائعة من الاحتفال والنجاح. سوف تسير بلادكم قريبا على طريق تاريخى ومزدهر». وفى تعليق إلى جانب الرسائل، كتب الرئيس الأمريكى السابق: «حصلت على الفضل فى تهدئة وضع خطير للغاية. فعندما التقيت باراك أوباما قبل توليه الرئاسة، أخبرنى أن كوريا الشمالية هى أكبر مشكلة تواجهها الولايات المتحدة والعالم. أعتقد أنهم كانوا سيخوضون حربًا معه لو لم أصبح رئيسًا. تحت قيادتى، لم تكن هناك حرب، ولا حتى قريبة». هذا كان حال السياسة الخارجية الأمريكية فى ولاية ترامب السابقة، أما فى حملته الرئاسية الحالية، فقد اتخذ نهجا أقرب لمبدأ «أمريكا أولا»، ودعا إلى إنهاء الحرب الأوكرانية، كما انتقد أعضاء الناتو لعدم تحملهم مشاكلهم الخاصة، لكنه اقترح أيضا إرسال فرق اغتيال إلى المكسيك لضرب أباطرة المخدرات دون موافقة المكسيك!
***
بشأن سياسة بايدن الخارجية، فهى تتشابه مع المعسكر الدولي فى الحزب الجمهورى، إلا أن بايدن كان داعمًا بشكل أعمى وبحماس لتحالفات الولايات المتحدة، وأظهر خطابا تدخليا مستمرًا يظهر الآن فى سياساته تجاه الحرب الروسية فى أوكرانيا (بدلا من الضغط على حلفاء الولايات المتحدة لتولى زمام المبادرة فى دعم كييف). كما أنه تجاوز سياسة الغموض الأمريكية التقليدية بشأن ما إذا كان يجب الدفاع عن تايوان فى حالة وقوع هجوم صينى، إذ قدم وعدًا شفهيًا صريحًا ومتكررًا بأن الولايات المتحدة ستفعل ذلك.
وأخيرا، بذل بايدن قصارى جهده لوضع بعض الصراعات فى إطار «مواجهة بين الديموقراطية وبين الأنظمة الاستبدادية» كما هو الحال فى روسيا، رغم أنه يتودد للأنظمة الديكتاتورية فى الشرق الأوسط.
***
على أى حال، يجب أن يكون هناك بديل أفضل للدولية المتشددة التى يتبناها بايدن، والقومية العدوانية لترامب. الشكل المثالى يمكن أن يكون التحرك نحو استراتيجية واقعية مبنية على التواضع وضبط النفس والتعامل السلمى مع الدول والقادة كما هم، وليس بالطريقة التى تريدهم الولايات المتحدة بغطرسة أن يكونوا عليها.
على الرغم من أن تبنى سياسة ضبط النفس الواقعية سيتطلب التخلى عن دور «شرطي العالم» فى الساحة العالمية، إلا أنها ستوفر الأمن الكافى للولايات المتحدة – المثقلة بالديون – بتكلفة أقل بكثير، وستجنبها الانحدار الإمبراطورى
منذ عقود من الزمن، يعد العالم متعدد الأقطاب اقتصاديا، وهو الآن يتحول إلى متعدد الأقطاب فى القوة العسكرية والسياسية. ومع تجاوز الدين الوطنى 30 تريليون دولار، لم تعد الولايات المتحدة قادرة على تحمل دور شرطى العالم، لذا يتعين عليها أن تسمح للدول الغنية والصديقة فى أوروبا وآسيا بالاضطلاع بدور أكبر فى تعزيز قوة جيوشها وتوفير الأمن الإقليمى.
على سبيل المثال، ينبغى للدول الأوروبية الغنية، التى يكون ناتجها المحلى الإجمالى مجتمعا أكبر كثيرا من نظيره فى روسيا، أن تتولى زمام المبادرة فى تمويل عمليات نقل الأسلحة العسكرية إلى أوكرانيا. وفى آسيا، تستطيع الدول الصاعدة (الهند ورابطة دول جنوب شرق آسيا) والدول المتقدمة (اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وأستراليا) توحيد جهودها والتحول إلى خط الدفاع الأول ضد عدوانية الصين تجاه تايوان وفى بحرى الصين الشرقى والجنوبى.
فى كلا المسرحين، يمكن للولايات المتحدة أن تتبنى استراتيجية الملاذ الأخير (أن تصبح فى الأساس خط دفاع ثانيا) فى حالة حدوث عدوان خارج عن السيطرة من قبل قوة كبرى تهدد توازن القوى العالمى، مثل روسيا المنهكة بالفعل التى تحاول السيطرة على أوروبا، أو تقدم الصين عبر تايوان لمهاجمة دول أخرى فى آسيا.
***
كلمة أخيرة، على الرغم من أن تبنى سياسة ضبط النفس الواقعية سيتطلب التخلى عن دور «شرطي العالم» فى الساحة العالمية، إلا أنها ستوفر الأمن الكافى للولايات المتحدة – المثقلة بالديون – بتكلفة أقل بكثير، وستجنبها الانحدار الإمبراطورى الذى شهدته تاريخيا العديد من القوى العظمى المفرطة فى التوسع”.
(*) بالتزامن مع “الشروق“؛ النص الأصلي في موقع “أوراسيا ريفيو“.