ذات صباح دخل شخص جسيم طويل القامة تسبقه مهابة وابتسامة، لا يُمكن لمن يراه للمرة الأولى إلا أن تحضر أمامه صورة العباس (ع) ببأسه ودرعه وشجاعته، ولا يُمكن لمن يسمع صوته إلا أن يشعر أنه يعرفه من قبل.
دخل الرجل الوسيم بهدوء وقور، وتبعه مجسم كبير لمنطقة العمليات في الجنوب بكل قراها وتضاريسها، تلالها والوديان، هضابها وأحراشها، حتى كأنك تركب في طائرة تمر من فوقها، حتى خراج القرى وجِلالها بدت جلاً جلاً، فكنت ترى تفاصيل الجل كأنك واقف فيه؛ كان كل تفصيل جغرافي واضحاً مهما كان صغيراً ودقيقاً وبالألوان ما جعل السؤال الوحيد: كم كلّف هذا العمل لإنجازه من دماء رصدٍ واستطلاع وجهد ووقت وعقول؟ وكان الجواب يقول الآن يتضح كيف تنجح المقاومة ولا تخسر في مواجهة الإحتلال، وكيف تعرف على أية أرضٍ تقف منذ ذلك القرن فكيف بها اليوم؟
يومها قِيل لمن سأل عنه: “هذا الحج محسن”؛ كان البعض سمع بهذا الاسم، وكان البعض الآخر القليل يعرف أنّه المسؤول العسكري، وآخر محدود يعرف أنه “السيد فؤاد شكر” الذي سرعان ما بدأ الكلام من دون تضييع دقيقة واحدة: “أنتم الإعلاميون مقاومون لكنكم لا تستطيعون دائماً الذهاب لمعاينة ما يجري في الميدان لأسباب كثيرة ولهذا نحن جئنا إليكم؛ أتيناكم بالميدان وحملنا هذا الميدان كله كما هو ونقلناه إلى هنا لتعرفوا عن كثب ماذا يجري وماذا يفعل إخوانكم المجاهدون وتواكبوا بدقة وصدق ما يحصل”.
ووسط الدهشة الممزوجة بفرحة وغبطة علتا الوجوه، راح “السيد محسن” يشرح بالتفصيل غير الممل: هذه القرية الفلانية، وتلك القرية الفلانية، وهذه المنطقة اسمها كذا.. هذا “جبل صافي” وهذا موقع “سجد” وهذا موقع كذا.. إخوانكم هنا وهنا وهناك، وهنا كذا وهناك كذا. وراح يشرح ويُشرِّح مواقع الاحتلال والعمليات الجهادية للمقاومة عليها، عملية عملية، موقعاً موقعاً، ومواجهة مواجهة، على كل محور، كون المقاومة كانت يومها تعتمد التقسيم الجغرافي للجنوب “تقسيم محاور”.
تراءى لنا كأنّ الجنوب بين يديه، كأنه كمشة تراب، يُقلِّبها كيفما يشاء، يعرف ما بين الحبة والحبة، يزرع ما يريد ما بين الشجرة والأخرى، يخبىء ما يشاء، ما بين الصخرة وأختها. كان يبدو كأنه يُطّل على الجنوب من علِ، وفي الآن عينه كأنه نابت منه وفيه.
كان الرجل مُلماً بكل وأصغر تفصيل كأنه أمضى عمره يجول في تلك الأرض شبراً شبراً، ليلاً نهاراً، داخل الشريط وخارجه، لا داخل مواقع الاحتلال، وكان يتحدث كمن يُفرغ مخزوناً مزمناً أو كمن حفظ درساً منذ الصغر، وكان لا يريد إلا أن يستطيع سامعه أن تتسع أذناه لسماع ما يقول، ويستوعب عقله الهدف المنشود، تماماً كأنه يشرح لمقاومين ذاهبين إلى ميدان العمليات، ولهذا كان الشعور أنه نقل الجميع الى الميدان من خلال نقله الميدان إليهم.
قال الكثير مما قيل ويقال ومما لا يقال حتى بعد استشهاده اليوم، وبعد أقل من ساعة أنهى المهمة؛ أوصى بما يجب؛ غادر الكلام، وعاد إلى الميدان، ميدانه الحقيقي والفعلي، ومنذ ذلك الحين وهو هو، راكزٌ بين اثنين:
“السيد محسن” الذي لا يُرى ولا يعرفه أحد؛
و”السيد محسن” الموجود في كل مكان وحيث يجب أن يكون.
منذ ذلك اليوم وهو حيٌ في كل مكان لكنه ليس في كل مكان.
واليوم هو ليس في كل مكان لكنه حي في كل مكان.
كان موجوداً بين الجميع، يراهم ولا يرونه والجميع لا يرونه ولا يعرفونه.
واليوم يخرج على الجميع ليروه ويعرفوه ويبقى حياً بينهم.
اليوم يتحد “السيد محسن” ويتوحد.
اليوم يظهر “السيد” دفعة واحدة كما هو، فؤاد المقاومة النابض.