موسى الصّدر.. ماضي “شيعة لبنان”.. أمْ مُستقبلهم الحتميّ؟

كلّما وصلْنا إلى تاريخ الذّكرى السّنويّة لتغييب الرّمز الرّوحيّ واللّبنانيّ والإسلاميّ والشّيعيّ، الإمام السّيد موسى الصّدر (وأخَوَيه)، كلّما تزداد قناعة البعض، وأنا منهم، بأنّ الحركة الصّدريّة (التّموضع الصّدريّ في لبنان إذا صحّ التّعبير).. لم تكن مجرّد "نزوة" طائفيّة شيعيّة عابرة، في بلد الطّوائف والطّائفيّة، كما لم يزلْ يعتقد البعضُ للأسف.

علينا أن نسعى إلى اخراج بعض الأحبّة من هذا الحُكم المُسبق على حركة وتموضع السّيّد موسى الصّدر في ما يخصّ لبنان. وهو حُكمٌ مُسبقٌ أو على الأقلّ حُكمٌ مُستعجلٌ أو عاطفيٌّ لم يزلْ يُعمي الكثيرين، لا سيّما من الإخوة اليساريّين والعلمانيّين في لبنان، عن رؤية الواقع الشّيعيّ اللّبنانيّ على حقيقته وبمختلف أبعاده، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ظاهراً وباطناً.

نعم؛ هذا ما نختلف فيه، بشكل أكيد، مع بعض الإخوة من اليساريّين اللّبنانيّين، بالإضافة إلى بعض أحبّتنا من أهل جوّ “فتح” سابقاً أو حاليّاً، أو مع بعض أهل “الحركة الوطنيّة اللبنانية” سابقاً على وجه العموم، أو مع بعض أهل التّوجّهات القوميّة العلمانيّة الطّابع بشكل عامّ أيضاً.

لقد أثبتت الأيّام واللّيالي والأحداث (وجميع الميادين تقريباً)، برأي الكثيرين من ذوي التّحليل ومن ذوي القرار، أنّ الحركة والتّموضع الصّدريَّين المذكورَين قد شكّلا وهما يُشكّلان اليوم مشروعَ اجابةٍ جدّيٍّ على سؤال جوهريّ يُمكن اختصاره بالعنوان التّالي، وهو ثلاثيّ الأبعاد حقيقة: “اللّبنانيّون الشّيعة بين: (١) الخلفّية الدّينيّة والمشروع الحركيّ الإسلاميّ الإقليميّ والعالميّ؛ (٢) والانخراط في مشروع الدّولة والمُواطَنة في لبنان؛ (٣) ومشروع مقاومة العدوّ الإسرائيليّ (الذي يُمكن ادراجه تحت (١) و(٢) أيضاً)”.

بدل أن نرى في “الصّدر اللّبنانيّ” مجرّدَ حالة طائفيّة-عاطفيّة عابرة، أو صرخة هويّاتيّة-طائفيّة قام بها رجلُ دينٍ شيعيٍّ “متآمر” تارةً مع رأس المال، وتارةً مع اليمين، وتارةً مع جهات خارجيّة (وما إلى ذلك).. علينا برأيي أن ننظر جميعنا إلى القضيّة من هذه الزّاوية (وأخيراً): بالفعل، “الحالة الصّدريّة” في لبنان مثَّلت وتُمثِّل جواباً جديّاً ومتكاملاً (أو شبه متكاملٍ) ومقنعاً على هذه الثّلاثيّة المذكورة.

قد لا تُمثّل الجوابَ الأوحَد المُمكن طبعاً. ولكنّها تُمثّل، بالفعل، جواباً لم يزلْ يُثبت أنّه جدّيّ ومُتكامل. وسنرى، في ما يلي، لماذا يُمكن الادّعاء أيضاً بأنّه جوابٌ يتمتّع بتفوّق نسبيّ لا يُستهان به، على بقيّة الطّروحات الماضية والحاضرة، أو الطّروحات قيد التّحضير أو الانشاء والتي يُمكن استشرافها من خلال واقعنا السّياسيّ والفكريّ اللّبنانيّ.

***

فالأهميّة النّسبيّة لهذا “الطّرح الصّدريّ”، بل وعامل تفوّقه العامّ على بقيّة الطّروحات، إلى اليوم، ضمن البيئة الشّيعيّة (وخصوصاً بالمقارنة مع الطّرح اليمينيّ التّقليديّ، أو الطّروحات الدّينيّة التّقليديّة على اختلافها، أو الطّرح اليساريّ-الماركسيّ بشكل عامّ، أو الطّروحات القوميّة العلمانيّة الطّابع خصوصاً): أهمّيّته النّسبيّة وتفوّقه يكمنان في أخذه بالاعتبار للخلفيّة العقائديّة والثّوريّة والتّاريخيّة الإسلاميّة والشّيعيّة والعروبيّة.. دون اهمال أو اغفال أو اغراق للجانب اللّبنانيّ (هويّةً، دولةً، ومقاومةً وطنيّة إن شئت).

أو يُمكن التّعبير عن نفس الفكرة بطريقة مقلوبة، تُسهّل إيصال المعنى أيضاً: إنّ أهمّيّة “الطّرح الصّدريّ” تكمن في تمكّنه من الإجابة على الجوانب اللّبنانيّة، دون خروج من الجوانب الإقليميّة والإسلاميّة والرّوحيّة بشكل عامّ. وهذا ما لم تستطع بقيّة الطّروحات تحقيقه، فكراً وتجربةً.

باختصار:

  • منهم، مع التّبسيط، من بالغ في الجانب اللّبنانيّ “الانعزاليّ”، وهذا ما يتعارض مع الإطار الثّقافيّ والتّاريخيّ والمفاهيميّ الاسلاميّ-الشّيعيّ (والعروبيّ إن شئت)؛
  • ومنهم، مع التّبسيط أيضاً، من بالغ في الجانب الدّينيّ التّقليديّ (والرّجعيّ إن شئت)، وهذا ما لا يتماشى مع الإطار اللّبنانيّ، ولا مع الإطار الحرَكيّ الاسلاميّ المستجدّ في النّصف الثّاني من القرن العشرين خصوصاً؛
  • ومنهم من بالغ في محاولة اسقاط مفاهيم غريبة تاريخيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً على الواقع الشّيعيّ واللّبنانيّ، وهذا ما لم ينجح في الأعمّ الأغلب كما أثبتت أغلب الأيّام والأحداث والميادين؛
  • ومنهم من بالغ في الجانب العلمانيّ، ضمن نفس الإطار العامّ؛
  • ومنهم من بالغ في الجانب القوميّ (عربيّاً أو سوريّاً وما إلى ذلك)..

.. إلى ما هنالك من تموضعات وطروحات، لم تستطع برأيي أن تساوي ولا حتّى أن توازي “الطّرحَ الّصدريَّ”، واقعيّةً وتاريخيّةً واتّزاناً.. وبُعدَ نظرٍ محلّيّاً واقليميّاً.

(على الطّريقة الفرنسيّة، يُمكننا بالمناسبة، وبحسب الزّاوية الأيديولوجيّة التي ننظر من خلالها: يُمكننا اعتبار “الطّرح الصّدريّ” طرحاً من النّوع الوسطيّ-اليساريّ أو الوسطيّ-اليمينيّ.. وأعتقد أنّ الإمام الصّدر كان يُريد، بالفعل، أن يُعتبر من أهل الوَسَط، لكن ذي المَيل اليساريّ غير الماركسيّ طبعاً.. وهذا بحثٌ قد نعود إليه في مناسبات أخرى).

***

في لحظة تاريخيّة دقيقة جدّاً من تاريخ هذا البلد، وبينما كانوا ضائعين بين “شيعيّتهم” و”لبنانيّتهم” و”عروبتهم” (إلخ.).. وفي حين كانت تتنازعُهُم الأفكار الدّينيّة-التّقليديّة، والأفكار اليمينيّة (اللّيبراليّة أو الاقطاعيّة أو غيرها)، والأفكار الماركسيّة، والأفكار القوميّة، والأفكار العلمانيّة على اختلافها جميعاً.. استطاع رجلٌ رائدٌ ومُتميّزٌ كموسى الصّدر أن يُجيب الشّيعة على الأسئلة الثّلاثة الكبرى معاً (وفي الوقت المناسب كما سنرى):

١/ كيف “نظلّ” روحيّين ومتديّنين، مع الحفاظ، ضمن نفس السّياق طبعاً، على بُعدنا العقائديّ والتّاريخيّ (النَّجفيّ والقُمّيّ والعامليّ معاً)؛

إقرأ على موقع 180  "وحدة معايير" أم إنقلاب على الدستور اللبناني؟

٢/ كيف نتحرّك وجدانيّاً وفكريّاً وسياسيّاً، ضمن البُعدَين الإسلاميّ والعروبيّ، بما يشمل حركيَّتَنا المُقاوِمة الضّروريّة (العسكريّة وغير العسكريّة) في وجه المستَكبرِين على شعوبنا وعلى أمّتنا، وفي وجه المستعمِرِين والمحتلِّين والمستغلِّين والظّالِمِين.. وأعوانِهم وحلفائِهم وأتباعِهم أجمَعين؛

٣/ كيف “نبقى”، مع ذلك، وبلا أيّ عُقد نفسيّة أو اجتماعيّة أو مفاهيميّة: لبنانيّين عن قناعة في الظّاهر وفي الباطن. وخصوصاً كيف نبقى لبنانيّين وطنيّين سائرين في مشروع بناء دَولة المُواطَنة، ودولة المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أفرادها مهما كان انتماؤهم الطّائفيّ أو المذهبيّ.

***

لا أعرف، صراحةً، من جاء إلى شيعة لبنان بإجابة ثلاثيّة الأبعاد كهذه الإجابة الشّاملة والواقعيّة معاً غير الإمام السّيّد موسى الصّدر. ويُمكن التّعبير عن هذه الإجابة بطرق مختلفة طبعاً، كما سبق ورأينا في هذا المقال أو في ما سبقه من قَول ومن مَقال.

لكنّ الأكيد هو أنّه: على بعض إخواننا أن يُعيدوا النّظر في تقييمهم لواقعيّة ولتأثير ولبُعد نظر “الطّرح الصّدريّ” ذاك. علينا أن نخرج جميعاً من أحكامنا المُسبقة الموروثة من فترة الحرب الباردة ومن فترة الحرب الأهليّة اللّبنانيّة.

والأكيد أيضاً أنّ هذا الإمام يُشكّل حالة نادرة، إن لم تكُن وحيدة، ضمن تاريخنا اللّبنانيّ الحديث والمعاصر. فهو، من جهة، حاضرٌ بشكل جوهريّ ضمن إطار فهم ماضي شيعة لبنان طبعاً.. ولكن، كلّما مرّت الأيّام، يزداد هذا الإمام وجوداً في ما يخصّ فَهم المستقبل الشّيعيّ اللّبنانيّ أيضاً!

بشكل ملموس، بل ومتصاعد: يبدو الصّدر، خصوصاً بسبب هيكليّة الطّرح الذي تحدّثنا عنه باختصار، وكأنّه، في الوقت عينه، رمز الماضي الشّيعيّ.. ورمز المستقبل الشّيعيّ في لبنان وبامتياز.

لأنّ الخطوة الكبرى التّالية شيعيّاً، عاجلاً أم آجلاً، قبل التّسويات الكبرى في الإقليم أو بعدَها.. ستكون بالتّأكيد في اتّجاه الدّولة والمواطَنة، وذلك من دون إدارة الظهر للبُعد الاقليميّ وللبُعد المقاوِم، كما رأينا. وهذا ما يجعل الحضور الصّدريّ كالقَدَر المحتوم الذي لا يُدفَعُ إلّا بِهِ.

ومن تجلّيات هذه الفكرة على المستويين السّياسيّ والثّقافيّ اللّبنانيّ: خطاب المعنيّين، ليس فقط ضمن صفوف “حركة أمل”.. بل، وخصوصاً، على لسان أحد الصّدريّين الكبار ضمن بيئة “حزب الله” بلا شكّ، أعني سماحة السّيد حسن نصرالله.. الذي يُكرّر، عند كلّ فرصة، التّذكير بـ”الإمام” رمزاً وعنواناً للمقاوَمة.. ولكن أيضاً، رمزاً وعنواناً لانخراط الشّيعة ضمن المشروع اللبنانيّ الدولتي.. وبالتّالي، رمزاً وعنواناً للمرحلة المقبلة شيعيّاً.. ولبنانيّاً بالتّأكيد.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  فرنسا تشهر سيف المواجهة مع تركيا في ليبيا... طموحات وخيبات