بسليم الحص جَدَّدت «المارونية السياسية» منذ ربع قرن شباب رؤساء الحكومات في لبنان.
وبرفيق الحريري جدَّد أهل الطائف شباب هؤلاء في نهاية القرن.
ومن يومها، شاع تركيب وتوصيف المراكز والأشخاص بحسب التداول والأعراف:
رئيس أكبر من رئاسته.
ورئيس أصغر من رئاسته.
ورئيس على قدر رئاسته.
الحصيّون دأبوا على القول إنَّ الحص هُجّر واستعاد سراياه، والحريريون رأوا أنَّ الحريري هو من جعل السراي سرايا كبيرة، وأنه علّاها لقياسه لا لقياس الآخرين من رؤساء الحكومات المعروفين، وراحوا يردّدون شعر محمد الفيتوري:
قبلك لا، بعدك لا، لا روعة النصر (السراي) ولا جلال الانكسار (الاستقالة).
أكانت المشاعر بين الحص والحريري غير تلك التي كانت بين غيرهما من السياسيين؟
قبل مدة، كشفت صحيفة «الصنداي تلغراف» الإنكليزية أن جون ميجور كان يتمنى لزميلته السابقة مارغريت تاتشر العزلة والدمار..
وكانت أحاسيس المرارة متبادلة بينهما.. تُرى، ما هي مقولة كمال الجنزوري رئيس وزراء مصر السابق لخلفه عاطف عبيد؟
المشاعر بين السياسيين هي هي، بألفاظ ولغات مختلفة، وعنوانها «تمنيات متبادلة بالعزلة والدمار».
اليوم، وبمناسبة مرور سنة على عودة الحص رئيسًا (1998 – 1999)، نسأل: «أي نوع من السياسيين هذا الذي بنهاية القرن يكون قد أمضى ربع قرن في السراي، وهو الفقير اليتيم المعذب»؟
في العام 1976، كان طبيعيًا جدًا أن يختار الرئيس الياس سركيس «الموظف السابق» سليم الحص، مثيله (في مصرف لبنان)، رئيسًا للوزراء. ليرثا معًا طبقة سياسية عتيقة، شكلت هاجسًا لسركيس والحص في حينها. فالرئيسان كانا يتمنيان حتى تزرير الجاكيت أمام أقل أبناء تلك الطبقة من أمراء السياسة اللبنانية. وكانا يتهيبان قوة الإسناد الطائفي والمذهبي ثم الميليشياوي لأبناء تلك الطبقة، بل لآبائها، في وقت هزلت خلاله هيبة ركب وركاب الدولة والشرعية، بما فيها الجيش والحكومة. وكانت القوى الإقليمية يُعطل بعضها بعضًا مباشرة أو مداورة.
منذ ذلك الحين، أي منذ ربع قرن تقريبًا، طلَّق سليم الحص الوظيفة والعمل المصرفي، واحترف السياسة، محتلًا الكرسي الثالث براحة وثبات.
لكنه، من يومها وحتى الآن، يبدو بمظهر الهاوي أو المبتدئ أو المُكره أو الـ «بين بين». وبالرغم من أنه انتصر على أغلب أخصامه بسلاح الموقف، وورث طاقمًا من الشخصيات المهمة، فإنه ما يزال يستدر منا أن نهديه ثواب قراره، «وأما اليتيم فلا تقهر».
وستبقى معه هذه «البين بين» صورة دائمة فاقعة الألوان والملامح، ولو بالشكل..
أورثه «النظام» صائب سلام من بيروت، وأورثه «القدر» رشيد كرامي من طرابلس، وأورثه «القسم» رفيق الحريري من لبنان وسائر المشرق.
وعندما اختلَت به مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية أخيرًا، روى أحدهم:
«هالها تجهمه وكآبته
فبكت ولطمت وقالت: لقد رق قلبي يا سليم، لماذا تبدو حزينًا؟
أتخشى السلام؟
أتخشى باراك”؟
أجابها: “يا أولبرايت، يا ابنة عمي، إني لا أخشى هذا ولا ذاك. بل أخشى الحريري وسائر المشرق”!
وقد وصفه أحد الصحافيين لجريدته، فكتب:
«يحمل كتفيه على ظهره مثقلًا بالتركة «الثقيلة» مع ميل واضح نحو «اليمين» معلقًا نظارته الطبية فوق وجهه كأنه يتقبل التعازي بحبيب، أو كأنه يبكي بلا دموع..
ثم من قلب هذه المظاهر والصورة، يفرج عن ضحكة حبكت في لحظتها، يُطلقها بالفصحى، ونكتة نظيفة من «تحت الزنار».
فتحار معه، أتعزيه أم تضاحكه؟
نظيف، لا بل آية من آيات النظافة،
نظافة النظرية ونظافة التطبيق.
يستل فكرته كما موقفه من جعبة البراءة،
يستلها كالمخرز،
وتخالها كالمبضع،
وهي وقت الضرورة كالسكين.
نجح أيما نجاح في عالم الجامعات والمصارف، ثم استدار من دون ضجة يُمنّن الآخرين بتنازله إلى عوالم السياسة والزواريب، لينبري بعدها كآخر التقليديين من دون منافس في قافلة من عتاة الرؤساء وسكان السراي. نصفه أبو عبد البيروتي، ونصفه الآخر مارتن لوثر كينغ.
في ساحة العفة، هو أمتن حصونها.
عفة اللسان،
وعفة النفس،
وعفة الجيب،
عصي على الفساد ومدرب ضد الانزلاق في أمهات القضايا، درويش بالشكل، وغني بالمضمون، أكثر القراء «سياسةً واقتصاداً» ونكتة، سلس القراءة وسلس الكتابة، والملل عنده قطاع عام..
الثروة تهمة.
لا يعرف الخمر ولا يعرف الميسر ولا الزوربة.
إلا أن الناس في بيروت تحب الحريري.
يُحب حزب اللَّه علنًا، ولا يكره أمل.. علنًا يعشق المقاومة ويمج الميليشيات. وهو غير معقد من الأجهزة.
يبدو مشحونًا بالحزن ومتشحًا بالإرهاق، ويركن دائمًا في زاوية للسُكنة. لكنه ينطح بنظراته ونظارته الطبية الصخر.
لم يرتهن لالياس سركيس وهوس رئاسته. لم يحترم أمين الجميل، ولم يساير ميشال عون، فلم يكسره ولم يُعنْه، ولم يحب الياس الهراوي، فلاعبه ولاغاه، ويطريها مع إميل لحود.. رقابة.
ينحت تصريحه بقلم رصاص، فيظنّ أخصامه أنه يخطه بمعول ضخامة كفه، توحي لمصافحه أنه بطل لبنان بالمصارعة، وهو لم يفصفص يومًا بأصابعه فروجًا.
نباتي بالفطرة ثم بالفكرة.
باطني بالسليقة وشفّاف بقرار.
إلا أنه يفترس أخصامه بالصبر.
يُطل صباحًا على الناس، كأنه توضأ لتوه للشأن العام حيث لا يستطيع الشيطان إفساد وضوئه ولا وضوء لسانه ولا وضوء سلوكه ولا وضوء أعصابه.
يُطرّز مقاله أو تصريحه بيده كأنه آخر المقالات. ويضع النقاط على الحروف بتأنٍّ كأنها نقاط أصفار على شيك بملايين الدولارات، ويقلب الكلمات بيسر ما بعده يسر، فيضع نقطة مثلًا على باء كلمة المستقبل ليجعل منها كلمة الماضي.
سألت أحد الصحافيين المصريين من معارفه: «كيف ترى الحص»؟
قال: «تغلب على صورة الحص صورة القاضي، لا صورة الرئيس. لكن لبنان لا يحتاج في هذه الفترة إلى رؤساء ولا إلى سياسيين، «شوية» بناء وصمود وكفاية السراي الكبير في وادي الذهب”.
من هجّر منها من؟
ومن احتل مِن من؟
الانتخابات النيابية على الأبواب
والقرار للنواب
والنواب ضمائر
ظاهرة ومستترة
أهمها الضمير المستتر تقديره..
***
منذ سنة، خرج رفيق الحريري من السراي الكبير (1992 – 1998) ودويُّ خروجه لا يزال يُسمع في أرجاء لبنان الشعبي والرسمي، ولم يترك لعودة خلفه أي دويّ أو صدى.. وكأن ذلك الخروج مؤقت، وتلك العودة آتية، ولو طالا: لا الأول همّه أنه خرج، ولا الثاني صدّق أنه عاد، فالحريري لا يلتفت إلى الصغائر ولا إلى الوراء، وعندما قرّر أن يُرمّم آثار الحرب على البشر، فتح جامعات العالم لجيل كامل من الطلاب. وعندما قرر أن يرمم آثار الحرب على الحجر فتح لبنان ورشة إعمار ومنافسة، وجعل وسط بيروت عاصمة للمستقبل.. دائمًا ينظر إلى الأمام لا إلى الوراء.
منذ سنة، خرج الحريري من دوائر الحكم، وتربع على سدة السلطة متضامنًا مع قناعته وصدق أحاسيسه. ومن رحب صدر السراي إلى رحابة صدور الناس لم تنل منه حملات التشكيك والتجريح، ولم تهزّه موجات المماحكة بالوكالة، ولم تلوِ قدرته كل مصادر العتمة والظلام.
رفيق الحريري والكرسي أمامه أو وراءه سيان، فهو مقاتل لحساب قناعاته، وعنيد بلا حساب.
إرادة قُدَّت من صخر، وثقة باللَّه وبالنفس بلا قاعٍ ولا قعرٍ خارج دائرة الحكم وعلى سدة السلطة.
السلطة حيث تؤثر لا حيث تأمر.
ولا خلط في هذا بين الرئاسة والقيادة، فالرئاسة طاعة بالقانون،
أما القيادة فطاعة بالقناعة والحب.
الرئاسة أوامر والقيادة دور.
رفيق الحريري جبلة مهارة في الكرّ والفرّ وجَلد على من يحلو جلده، وموهبة في تبسيط العقد، أعقد العقد.
رحابة صدر لا توصف في غدر المسيء والسيئ: رفيق الحريري، خصمك يكبر بخصومتك، وصديقك يرتاح بصداقتك.
الانتخابات على الأبواب، ومهما قُسّمت الدوائر، فقسمتك من حبّ الناس مداها الوطن والمستقبل.
الناس في لبنان تحب الحريري.
سألت أحد كبار أصدقائه المصريين (محمد حسنين هيكل على الأرجح) عنه فقال:
«مش يعرف قيمة نفسه، ويرتاح بقى، هو فاكر نفسه رئيس وزراء وبس، دا الحريري دور كبير. هو فاكر نفسه في السراي أكبر منه برا. هو لو كل لبنان سراي مش حتساعه دا الحريري بلد، وجمهورية، بحاله لما يجي دوره حيبوسوه قفا ووجه، بلاش سراي بلاش كلام فارغ، روح قلو يعرف قيمة نفسه ويرتاح بقى دا الدور جاي جاي. مش من كم سنة كان الحريري يهدي الحص طائرة خاصة.. تقديرًا وتوددًا؟
مش من كم سنة كان جنبلاط يتهجم على الشيكات الحريرية؟ اليوم الحريري ما يرضاش يطيّر تحية للحص. دا هو فاكر السراي فاضية زي ما تركها.. واليوم الحريري يُجيّش قطاعات شعبية لجنبلاط تدعمه بالانتخابات. دا الحريري صبور وداهية.
أنا بسألك سؤال: مين أشهر بلبنان شجر الأرز أو الحريري»؟