عندما يرحل الكبار.. سليم الحص نموذجاً

كانت أولى التغطيات الصحفيّة التي سُمِح لي بـ"خوضها" وحدي، بعد ثلاثة أشهر من التحاقي بإذاعة "صوت الشعب". ومنذ الصباح الباكر، حملتُ مُسجّلي الصغير وقصدتُ مقرّ "لجنة حقوق المرأة" في بيروت. فإلى هناك، كان قد وصل للتوّ، وفدٌ نسائي من بعض دول أوروبا الشرقيّة (الاشتراكيّة سابقاً). جلتُ مع الوفد على أكثر من شخصيّة لبنانيّة. وحَطَطْنا الرحال، ظهراً، في منزل رئيس الحكومة (آنذاك) سليم الحص.

لم تدم زيارة الوفد النسوي أكثر من ربع ساعة. دقائق، وفُتِح الباب الخشبي الجرّار إيذاناً بانتهاء اللقاء. خرجت النسوة لاستكمال جولتهنّ. لكنّني لم أتبعهنّ لتغطية باقي محطّاتها. بل رأيتني أقفز، بسرعة البرق، لأخترق الغرفة قبل إغلاق ذاك الباب. وجدتُ نفسي أقف قبالة الرئيس سليم الحص الذي كان جالساً على كنبة في صدر الحجرة. فوجئ الرجل بي، ولم يعرف مَن أكون. ولا السبب الذي حدا بي إلى “اقتحام” مكتبه بهذه الطريقة. نظرتُ إليه وحيّيتُه كما يفعل الأطفال. “مرحبا”، قلتُ له. ابتسم وقال “أهلاً..!”. عندها، تشجّعتُ وطلبتُ منه، بنبرةٍ مرتعشة، إنْ كان بإمكانه أن يعطيني تعليقاً صغيراً على الزيارة والهدف منها. عاد الحص وابتسم وهزّ رأسه موافقاً.

خرجتُ من دارته خروج المنتصرين. كيف لا، وقد انتزعتُ، أنا التي تحبو في عالم المهنة، تصريحاً من رئيس حكومة لبنان. تصريح، صِيغَ منه العنوان الأوّل في نشرة أخبار الظهيرة. وحين أتذكّر اليوم تلك اللحظات (التي استعدتُها في ذهني مراراً في سنواتي المهنيّة الأولى)، أتفاجأ من سلوكي يومذاك. وأتعجّب، أكثر، من ردّة فعل هذا السياسي الكبير حيال صحافيّة مبتدئة. فهو لم يردّني خائبة كما يفعل، في العادة، “عتاة” السياسيّين عندنا مع أمثالي. فلقد كان سليم الحص، أوّل سياسي أقابله في حياتي. وكانت كلماته القليلة لي، في ذاك اليوم التشريني في الـ 1988، أوّل مقابلة صحفيّة لي، أيضاً. ما جعله شخصيّة مُحبّبة جداً إلى قلبي. ومع سنوات الخبرة، بدأتُ أتعرّف (على) وأكتشف المزايا التي جعلت منه سياسيّاً لا يشبه أحداً من سياسيّي لبنان.

فما يُميّز سليم الحص، في الحقيقة، عن سائر مُتعاطي العمل السياسي في لبنان، ثلاثُ مسائل أساسيّة يفتقد إليها السواد الأعظم منهم: الأخلاق والثقافة والتواضع.

لقد عاش الحص ومات، في منزلٍ أكثر من عادي في حيّ عائشة بكّار في بيروت. وبعيداً عن الاستعراضات التي يقوم بها معظم السياسيّين اللبنانيّين، لجهة الحمايات والحراسات وقطع الطرقات. كُثُر من الجيل الجديد لا يعرفون مَن كان سليم الحص أو ما كان يمثّله في بلدنا البائس. فهذا السياسي والأكاديمي والاقتصادي الكبير، يُعتبَر ابن الدولة وخبيراً مُعتّقاً بجميع مفاصلها. لقد شغل منصب رئاسة الوزراء خمس مرّات بين العام 1976 والعام 2000 (في عهود الرؤساء  إلياس سركيس وأمين الجميّل وإميل لحود). وتولّى وزارات الصناعة والنفط والإعلام والاقتصاد والتجارة والتربية الوطنيّة والفنون الجميلة والعمل والخارجيّة والمغتربين. انتُخِب نائباً عن بيروت لدورتيْن متتاليتيْن (1992 و1996) ولعب دوراً مهمّاً في إقرار اتفاق الطائف.

واليوم، والجنوب اللبناني يخوض معركةً وجوديّة مع العدوّ جنباً إلى جنب مع فلسطين وشعبها، لا يمكن إلاّ أن نستذكر لرجلٍ اسمه سليم الحص، خطوته الشجاعة والمُثخنة برمزيّتها. ففي اليوم التالي لتحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000، توجّه الرئيس الحص مع أعضاء حكومته لعقد جلسةٍ في ثانوية مدينة بنت جبيل المُحرَّرة. فالحص كان يعتبر أنّ “المقاومة هي سِمة العصر، وستبقى كذلك حتّى تحرير كلّ الأرض العربيّة” (كتابه “في زمن الشدائد”).

عندما يموت الكبار، تكبر مساحة الحزن، وتتّسع دائرة المواجع. سليم الحص كان كبيراً من بلادي، وأمام موت هذا النموذج من قامات الرجال، نشعر أكثر بالعجز المتمكِّن منّا. صحيحٌ أنّه في زمن الموت الجماعي يكون الحزن جماعيّاً، لكن يظلّ لموت الكبار أسى الحزن الفردي. اقتضى التمييز ورفع التحيّة لروح الراحل الكبير

شخصيّات كثيرة نعت الفقيد الكبير الذي لُقِّب بـ”ضمير لبنان”. كتبوا عن مسيرته وصفاته وإنجازاته ومواقفه و… نزاهته الموصوفة. وكان لافتاً، ذلك الإجماعُ على نعته بأنّه كان مثالاً للصمود في أقسى ظروف الحرب والانقسام. ورجل الدولة حين عزّت المناصب في أوج ظروف التحدّي. وعنواناً للتغيير والإصلاح في أصعب الأزمات وتعقيداتها. لكنّهم تناسوا، ومعظم سياسيّينا أسيادٌ في زمن التفاهة، أنّ سليم الحص كان رجل علمٍ ومثقّفاً من الطراز الرفيع. في جعبته 22 مؤلّفاً، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، نشر آخرها في الـ 2008.

في كتابه “تعالوا إلى كلمة سواء”، يُطلق سليم الحص دعوة مُلحّة على حلبة الصراع السياسي في لبنان. دعوة لنبذ الأحقاد والتشبّث بالوحدة الوطنيّة والإيمان بالعروبة. وفي “عصارة العمر”، يرى الحص أنْ لا إصلاح من غير مُصلحين. وأنّه عندما تكون مقاليد السلطة في أيدي غير الصالحين، فالدعوة إلى الإصلاح تكون كالمطالبة بانتحار الطبقة الحاكمة. لذا يؤكّد، أنه لا بدّ من قيادة تاريخيّة خارقة أو هبّة شعبيّة جارفة.

أمّا في “سلاح الموقف”، فيقول الحص إنّه لا يلجأ إلى العنف إلاّ فاقد القضيّة، ولا يلجأ إلى سلاح الموقف إلاّ المطمئنّ إلى منعة قضيّته. وأنّ سلاح الموقف له بُعد أخلاقي، إذْ لا يستطيع أن يستخدمه إلاّ مَن يتمتّع بالصدقيّة، أي مَن يتحلّى بكلّ الصفات الحميدة. وفي كتابه “ما قلّ ودلّ”، يرى الحص أنّ أميركا قد تكون لا تريد شيئاً من لبنان، ولكنّها تريد الكثير الكثير عبره. فهي عبر لبنان تضغط على الفلسطيني والسوري والإيراني والسعودي وسواهم. وقدر لبنان أن يكون في جوار دولة العدوان إسرائيل، له حدود مشتركة معها، فتستغلّ إسرائيل هذا الواقع لتبعث برسائلها عبره إلى أقطار المشرق العربي كافةً، وكذلك إلى دول العالم أجمع.

إقرأ على موقع 180  إسرائيل في غزة.. من "الصدمة" إلى اشتهاء الإبادة!

أبرز المواقف التي تطرّق فيها الرئيس سليم الحص إلى عقم النظام اللبناني جاءت، ربّما، في كتابيْه “في زمن الشدائد” و”نحن والطائفيّة”. في الأوّل، يكتب الحص أنّ اللبنانيّين لم يتصرّفوا يوماً كشعب، وإنما كقبائل تُسمّى (في هذا العصر) طوائف. وفي الكتاب الثاني، يستعرض شتّى القرارات والمراسيم والبيانات والمبادرات التي تبنّاها لتجاوز الحالة الطائفيّة. فضلاً عن تفنيد العقبات التي واجهته، والحواجز التي انتصبت في طريقه. وفي كتابه “محطّات وطنيّة وقوميّة”، يجمع الحص أبرز ما صدر عنه في صدد التطوّرات التي طرأت على الصعيد الفلسطيني، والإقليمي، والداخلي اللبناني، خدمةً للقضيّتيْن الوطنيّة والقوميّة، على حدٍّ سواء. وبعد؟

لم تكن شخصيّة سليم الحص “تتناغم” مع شخصيّات أصحاب الاستقطابات الطائفيّة والمذهبيّة. فثمّة محاولات حصلت لإزاحته عن المشهد السياسي واغتياله معنويّاً وسياسيّاً، وأحياناً باسم الطائفة. وكان هناك أكثر من دافع لمخاصمته ومجابهته و.. عزله؛ بعض هذه المحاولات يقف وراءها مناهضون لمواقفه العروبيّة الرافضة للحلول الاستسلاميّة، ولا سيّما وأنّ موقفه كان داعماً للمقاومة على الدوام. والبعض الآخر ناصبه العداء، بسبب تصدّيه للمتورّطين بالصفقات والفساد، ناهيك عن المنافسات حول التمثيل السياسي لبيروت.

في مذكّراته المنشورة عام 2000 والمعنونة بـ “للحقيقة والتاريخ- تجارب الحكم ما بين 1998 و2000″، يكتب الرئيس سليم الحص قائلاً: “لقد حاولوا اغتيالي لإزالتي من ذاكرة البلد. ولكنّ خدمتي لوطني هي أغلى ما أملكُ وأتركُه لأحفادي. لستُ نادماً على شيء. ولم أعمل لنفسي. ويداي لم تتّسخا. وضميري مرتاح”.

كلمة أخيرة. عندما يرحل الكبار، تكبر مساحة الحزن، وتتّسع دائرة المواجع. سليم الحص كان كبيراً من بلادي، وأمام موت هذا النموذج من قامات الرجال، نشعر أكثر بالعجز المتمكِّن منّا. صحيحٌ أنّه في زمن الموت الجماعي يكون الحزن جماعيّاً، لكن يظلّ لموت الكبار أسى الحزن الفردي. اقتضى التمييز ورفع التحيّة لروح الراحل الكبير.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  ‏خطة النهوض اللبناني.. هل المس بأصول الدولة حتمي؟