الاتفاق الإيراني السعودي.. كيف يترجم في “الساحات”؟

اخترق الاتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية ساحة الحروب بالوكالة التي سادت المنطقة العربية على مدى عقد ونيف من السنين المنصرمة، من اليمن الى لبنان مروراً بالبحرين والعراق وسوريا، ليعطي بصيص امل لهذه الدول التي انهكتها تلك الحروب.

يشهد العالم اليوم ما يمكن تسميتها بالحرب العالمية الثالثة التي تجري على ملعب الساحة الأوكرانية الساخن جدا جراء اندفاعة الولايات المتحدة ومعها حلف الناتو باتجاه محاولة توسيع نفوذها الى الحديقة الخلفية لروسيا، فيما يشكل بحر الصين والمحيط الهادىء وجنوب آسيا ساحتها الفاترة حتى الآن والمُهدّدة بالسخونة في أي لحظة جراء توجه الولايات المتحدة الى الحد من الإندفاعة الصينية.

منذ إنهيار الإتحاد السوفياتي في العام 1991، تربعت الولايات المتحدة على عرش العالم بصفتها قوة أحادية، لكن مع تعافي روسيا من مرحلة الانهيار السوفياتي وبعد ان أصبحت الصين قوة اقتصادية هائلة تتمدد في أسواق افريقيا وأوروبا وآسيا، قررت أميركا ان تدافع عن عرشها هذا عبر سياسة الهجوم بكل اشكاله العسكرية والاقتصادية مع روسيا وعبر حربها الاقتصادية وتحشيد التحالفات عسكرية على أبواب الصين.

حتى الأمس القريب كانت أميركا مطمئنة لظهرها في الشرق الأوسط لأن معظم دوله الفاعلة هي منذ أكثر من خمسين عاماً على حلف تاريخي معها يصل الى حد اعتبارها قواعد عسكرية أميركية، لا سيما تركيا ودول الخليج العربي، عدا “إسرائيل” وما تمثله أميركياً. أما الدول التي لم تكن حليفة للولايات المتحدة، فقد جرى تدميرها واغراقها في بحر من الدماء والنزاعات الداخلية (العراق وسوريا نموذجاً).

من هذه الزاوية يمكن القول إن توصل الصين إلى رعاية اتفاق بين السعودية، الحليف التاريخي لأميركا، وبين إيران، العدو اللدود لها، هو ليس بالأمر البسيط، أولاً، لان سياسة واشنطن منذ سقوط حليفها شاه ايران محمد رضا بهلوي وانتصار الثورة الإسلامية عام 1979 قامت على وضع ايران في موقع العداء الشديد مع دول الخليج المجاورة لها، عداء تحول مع الوقت الى أولوية على العداء مع “إسرائيل”. وثانياً، نجحت واشنطن في تطوير حالة عدم العداء بين “إسرائيل” ودول عربية عديدة بينها معظم دول الخليج، بإستثناء الكويت، إلى حالة تطبيع بعنوان “اتفاقيات أبراهام”. وثالثاً، كانت واشنطن تسعى لضم السعودية الى هذه الاتفاقيات، تمهيداً لإقامة حلف عسكري وظيفته مواجهة إيران.

من هنا لا يمكن مقاربة الاتفاق الإيراني السعودي إلا من زاوية أثره الجيوسياسي، لا سيما وأنه قابل للتدحرج والتحول إلى إتفاق خليجي إيراني برعاية بكين التي قررت أن تستضيف في الشهر المقبل قمة لمجلس التعاون الخليجي وإيران، وهذا يعني افقاد واشنطن مبرر إقامة تحالف عسكري عربي ـ “إسرائيلي” ضد إيران.

أي اتفاق سعودي إيراني لمعالجة الوضع اللبناني لن يؤدي الى الغاء او تغليب طرف على حساب الطرف الآخر، بل سيكون هناك تبادل مكاسب لكل من حلفاء الرياض وطهران، وفق منطق “لا يموت الديب ولا يفنى الغنم”، وهو منطق كان يمكن للأفرقاء اللبنانيين ان يستندوا اليه ويتوصلوا الى تسوية داخلية

لم يأت الإتفاق من الفراغ، بل جاء بعد مفاوضات بعيدةً عن الأضواء برعاية صينية.. وصولاً إلى إعلان الاتفاق من بكين. ذلك لم يكن مجرد حدث سياسي عابر او عملية تبويس لحى بين ممثلي البلدين برعاية “شيخ ربعه”، بل هو نتاج أشهر من الدبلوماسية الصينية الصامتة والمواظبة تتكىء على تراكم من العلاقات والاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمها النمر الآسيوي مع كل من البلدين المتخاصمين، إضافة الى إبرام اتفاقيات اقتصادية مع عدد من دول الخليج..

ونظرا للأهمية الاستراتيجية لهذا الاتفاق، فان المرجح أن لا تقف واشنطن مكتوفة الايدي إذا وجدت أن مصالحها تتضرر في الشرق الأوسط، بل ستعمل بكل ما اوتيت من قوة ومن تحالفات لتخريب هذا الاتفاق لتقول لقادة الشرق الأوسط “الامر لي في هذه المنطقة وممنوع المس بالمصالح الأميركية”، لذلك لا بد ان ننتظر الشهرين المقبلين لنرى مدى صلابة الاتفاق في مواجهة الهجوم الأميركي المضاد عليه.

اما عن تأثير الاتفاق على الوضع اللبناني، فمن السابق جداً لأوانه الحديث عن ذلك، على الرغم من الانهيار المتسارع للوضع اللبناني، فمن غير المعروف ما إذا كان التوافق الإيراني السعودي سينسحب سريعاً على بؤر الصراع المتداخلة إقليمياً بشكل متدرج، ام وفق منطق التسوية في كل الساحات. فإذا كان الخيار المرجح هو التعامل مع كل ازمة على حِدة، فان الأولوية ستكون لليمن، حيث يحتاج الطرفان الى انهاء تلك الحرب التي تجاوز عمرها السبعة أعوام استنزفت خلالها مئات المليارات من الدولارات، ويبدو ان قطار الحل قد سلك طريقه على سكة الحلحلة، اذ كانت الانطلاقة  من جنيف حيث اعلن عن اتفاق على تبادل الاسرى بين طرفي الصراع اليمنيين. يلي اليمن بطبيعة الحال العراق بوصفه جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي السعودي والإيراني ثم سوريا، حيث بات من الواضح ان عودتها الى الجامعة العربية وان كانت خلافا للرغبة الاميركية باتت مسألة وقت، وفي البحرين بدأت الأمور تتحلحل مع إيران بعد زيارة وفد برلماني إيراني الى المنامة في الأسبوع الماضي، كما تبلورت توجهات إيجابية في العلاقة الإيرانية الإماراتية بعد زيارة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني الى أبو ظبي أيضا في الأسبوع الماضي.

إقرأ على موقع 180  مصر والسودان.. المصير والشريان الواحد

يبقى موضوع لبنان، وهو ليس بالأمر المعقد للحل بعد ان تكون قد بنيت جسور الثقة بين طهران والرياض، واللافت للإنتباه هنا دعوة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة السعودية وترحيب الأخير بتلبية الدعوة.

وبرغم تشاطر طرفي الصراع في لبنان في قراءة الاتفاق الإيراني السعودي، كلٌ لمصلحته، فان أي اتفاق لمعالجة الوضع اللبناني لن يؤدي الى الغاء او تغليب طرف على حساب الطرف الآخر، بل سيكون هناك تبادل مكاسب لكل من حلفاء الرياض وطهران، وفق منطق “لا يموت الديب ولا يفنى الغنم”، وهو منطق كان يمكن للأفرقاء اللبنانيين ان يستندوا اليه ويتوصلوا الى تسوية داخلية وان يجنبوا البلاد الانهيار المريع الذي نشهده.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  حريقا المرفأ وأسواق بيروت.. معلّم اللحام ليس المتهم الأول!