في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وتحديداً في سنة 1978، وصل زاهر الغافري إلى الرباط، وتسجل طالباً لدراسة الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس. سيقترن لاحقاً بإمرأة مغربية، وله منها بنت عُمانية مغربية، أو مغربية-عُمانية.. لا فرق في ترتيب الكلمات إلا بصدق أواصر المحبة.
في وقت وجيز، استطاع زاهر الغافري أن يبني صداقات مع كثير من أهل الثقافة والفن المغاربة، أمثال إدريس الخوري ومحمد شكري ومحمد بنيس ومحمد زفزاف ومحمد الهرادي. كما تعرف على الممثل والمخرج المسرحي الكبير الطيب الصديقي، و”الطائر الأزرق” الشاعر باللغة الفرنسية محمد خير الدين. والتقى أيضاً بالأديب والسياسي عبد الكريم غلّاب.
ومن الفنانين التشكيليين جالس الفنانين محمد شبعة وفريد بلكاهية وفؤاد بلامين، وهم من أشهر رموز الحركة التشكيلية في البلاد.
وقد مكَّنته علاقاته الاجتماعية والثقافية من معرفة متينة بالمجتمع المغربي وحضارته، خصوصاً وأنه سيتعلم بسرعة الكلام بالعامية أو اللهجة المغربية.
عن إقامته المغربية يقول زاهر الغافري: “لقد قضيت في المغرب حياة هي واحدة من أجمل سنوات عمري. لقد عشت فيها طولاً وعرضاً، وكوّنت صداقات رائعة أعتز بها رغم رحيل بعض من أجمل الأصدقاء”. ويضيف: “المغرب بالنسبة لي كان مركز وجود، ففي كل خطوة من خطواتي كنتُ أفكر بهذا المغرب الواسع. كنت أفكر بجبال الأطلس مثلاً أو بعودة الأندلسيين من اسبانيا، الذين سكنوا في تطوان أو فاس أو مراكش، وبعبدالله الصغير آخر ملوك الطوائف. هذا المغرب المتعدد كان يفتنني”.
بعد أن أنهى دراسته الجامعية فكر الشاب زاهر الغافري في الإستقرار في الرباط، أو في الشمال في طنجة التي افتتن بأجوائها. وعزم على التخطيط لبناء وإنجاز مشاريع ثقافية بالمغرب، لكن الكلمة الأخيرة كانت للأقدار.. إذ سارت به رياحٌ وأبحرت به سفنٌ إلى تفاصيل شطآن متعددة، ورست به على امتدادات ضفاف مختلفة عبر العالم.. ربما كان لا بد منها كي يصبح زاهر هو زاهر الغافري الذي نعرف اليوم.. “شاعر الترحال والوطن” كما يوصف عن جدارة.
***
منذ سنوات امتدت لم ألتقِ بزاهر الغافري، منذ مغادرته المغرب. لكن أخباره ظلَّت تصل بين الحين والآخر من بعض الأصدقاء، منهم عُمانيين مثقفين وأدباء أصيبوا مثله بهوى المغرب فاختاروه مكاناً للإقامة وللحياة.
كما كنت أتابع إنتاجاته الأدبية، سواء من خلال الصحف والمجلات، أو عبر الدواوين الشعرية التي أصدرها. وقد تمكن من أن يكرّس اسمه، كمن ينحث بأظافرعلى صخر، بين أسماء شعراء قصيدة النثر العربية.
الصديق الكاتب الراحل إدريس الخوري هو أول من عرّفني على زاهر الغافري. ففي تشرين الأول/أكتوبر 1982، عُقدت في الرباط أول دورة للمهرجان الوطني للفيلم المغربي. وفي نهاية المهرجان، نظَّم المركز السينمائي المغربي سهرة على شرف المشاركين في المهرجان، أُختير لها نادي ضباط الجيش الملكي في العاصمة. كنتُ ليلتها برفقة “بَّادريس” (اسم التحبب الذي أطلقه المقربون على إدريس الخوري)، ولم نمكث بالسهرة طويلاً، إذ اقترح عليَّ إدريس أن ننتقل إلى سهرة أخرى كانت بانتظارنا، سهرة حميمية قال عنها، ببيت صديق له يسكن في حي المحيط في العاصمة.
أذكر أن من أوصلنا إلى حي المحيط، كان هو الزميل الصحفي السوداني طلحة جبريل، وقتها كان طلحة يسوق سيارة قديمة صفراء من نوع “فيات 127”. وما بين المسافة من نادي الضباط، خلف مسجد السنة، إلى أحد أزقة حي المحيط، ارتأى “سائقنا” أن يسمعنا من “كاسيت راديو” سيارته أغنية شعبية سودانية، فحدثنا بعجالة عن الحزن الدفين الذي يطبع أغاني السودان، ولم ينس شرح بعض كلمات الأغنية.
وقد أحب إدريس الخوري هذا، إذ كما يعرف أصدقاء صاحب “حزن في الرأس والقلب”، أنه كان من المولعين جداً بالموسيقى، أو بـ”المَّواسق ديال النفس”، حسب تعبيره الخاص.
أوصلنا طلحة جبريل إلى باب العمارة المقصودة ثم ودعنا، ولم يستجب لدعوة إدريس الخوري للبقاء برفقتنا. وكأني بإدريس كان يُردّد عنوان إصدار للشاعر الإماراتي حبيب الصايغ، احتوى على قصيدة طويلة باسم: “هنا بار بني عبس.. الدعوة مفتوحة”.
كانت الساعة تجاوزت العاشرة ليلاً، وربما أكثر قليلاً. طرق “بادريس” باب شقة في الطابق الأرضي، فاستقبلنا بالود والترحاب شاب خليجي، نحيف البنية، مديد القامة، حافي القدمين، يلبس “كندورة” رمادية. (لباس تقليدي مغربي)، بشعر غير طويل، وغير منسدل تحت الرقبة، ولم يكن زمنها يعتمر “بيريه” الثورة والثوار، كما سنألفه منه في ما بعد.
وجدنا لديه أربعة أشخاص آخرين وامرأة شابة. أذكر من الأصدقاء الأربعة الصحافي باللغة الفرنسية والإعلامي المعروف نجيب رفايف. والإعلامي علي تزلكاض، (قبل أن يغير لقبه الأمازيغي إلى “السي أعراب”، وهو من سيتولى لاحقاً إدارة المعهد العالي للاتصال والإعلام في الرباط).
صاحب البيت، لم يكن سوى زاهر الغافري. وأما المرأة فكانت زوجته المغربية فاطمة الوكيلي، الطالبة آنذاك في معهد الصحافة. لم تمر سنوات حتى نالت شهرة واسعة بعد أن أصبحت صحافية في إذاعة البحر المتوسط (ميدي آن) في طنجة، وفي التلفزة الوطنية في الرباط، ثم بعدها صاحبة برنامج شهير في القناة الثانية “دوزيم” في الدار البيضاء، أذكر من بين ضيوفه الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. وقد أثمر زواج الإعلامية فاطمة الوكيلي بالغافري ابنة جميلة سمياها يارا، قبل أن يتوافقا على الانفصال ثم الطلاق.
كانت الشقة بسيطة، والصالون الصغير الذي استضافنا فيه زاهر تم تأثيثه بالأسلوب العُماني التقليدي، أو الخليجي، فلا أرائك ولا كراسٍ. الكل جلس على بساط وأوسدة أرضية بسيطة. كان زاهر هادئاً، مُثنياً ركبتيه إلى الخلف جلوساً، كمتعبد بوذي، وقد حافظ تقريباً على وضعية الجلوس ذاتها طيلة وقت السهرة التي امتدت إلى ما بعد منتصف الليل، بينما كان ينسج فوق رأسه عمامة رمادية من سحب دخان، كلما تمزقت عمامة بادر إلى نسج مثيلتها، بخيوط دخان سجائر “منغومة”، إذ كان يشعل سيجارة بعقب أخرى. وقتها لم يكن زاهر ابتلي بعد باستعمال الغليون.
بجانبه كانت فاطمة الوكيلي، أكثر هدوءاً. لم تشاركنا طقسنا الغرائبي، ولا حماسة صخبنا الفائض، إلا عبر متابعتها لما يدور حولها بخجل متحفظ، وبإيماءات مختصرة مصحوبة أحياناً بابتسامة تكاد تشبه ابتسامة “الموناليزا” المرتابة.
لا أذكر أن جلستنا تلك طاف بها حديث أو كلام عن الشعر أو أزمة الشعر، بل كانت جلسة حرَّة من التبادل والضحك، بإثارة حكايات غير نمطية بروح من الدعابة والمرح، حكايات لم تخل من التسكع في دروب النميمة وشوارع الثرثرة المفيدة. النميمة الجميلة التي كان الكاتب محمد زفزاف يقول عنها “إنها تطيل العمر”، والتي حاول إدريس الخوري مرة، في مقدمة لأحد إصداراته، الهتاف لها، رافعاً شعار: “الكتابة نميمة”.
على يسار زاهر وضعت آلة “راديو كاسيت” متوسطة الحجم من نوع “غرانديغ” الألمانية السوداء اللون. كان زاهر كلما انتهى شريط موسيقي يغيره بشريط آخر، دون انتظار رغبة “ما يطلبه المستمعون”. سرعان ما اكتشفت أن زاهر من عشَّاق الأغنية الشعبية المغربية الجديدة، المتمثلة في ظاهرة “ناس الغيوان”. وقد استمتعنا جميعاً تلك الليلة ببعض الأغاني الغيوانية، وبأغانٍ أخرى لمجموعة “جيل جيلالة“، ومنها أغنية “يا أسفاً عليك”.
في إحدى اللحظات، سيطلب “بَّادريس” من زاهر إرجاع الكاسيت إلى الوراء لإعادة الاستماع إلى مقطع غنائي بعينه من هذه الأغنية، ليردده برغم خشونة وجفاف صوته.
تقول المجموعة الغنائية في الكوبلي:
“يا أسفا علـيك…
غادي للهاوية.. ولا من ياخد بيدك..”.
(يا أسفي عليك/ ذاهب إلى الهاوية/ ولا من يأخذ بيدك).
بعدها كان “بَّادريس” يغرق في موجة عالية من ضحكته المشهورة، ضحك سُرعان ما يتناثر رذاذه المتلاطم بقوة، فنضحك معه أكثر، وننضم للمطالبة بإرجاع المقطع من بدايته، ليستجيب لنا زاهر بضحكته المرحة المزهرة:
“يا أسفا عليـك..
نهار يلوحك لنهار
ساكت على ما فيك..
ولا شي نهار على هاد الحالة
الغيرة تجيك..
يا أسفا عليـك…”.
(يا أسفي عليك/ يوم يرميك ليوم آخر/ وأنت ساكت على ما بك/ ولا مرة وأنت على هذه الحال/ أتتك الغيرة..).
***
أحياناً نتوهم انكسار القاعدة وحدوث الاستثناء، لكنه استثناء مزيف، إذ تتوحد عبارات النعي برغم تعدد الأسباب لتشمل الموت الواحد.
ففي فجر يوم 26 آذار/مارس 2024 رحلت أم يارا في مدينة الدار البيضاء، “بعد صراع مع مرض عضال..”.
بعد حوالي الستة أشهر، من العام نفسه، في 21 أيلول/سبتمبر، سيلحق بها أبو يارا.. “بعد صراع مع مرض عضال”.
فقبل عام اكتشف الأطباء الداء الخبيث، فتساءل زاهرعلى صفحته في “الفيسبوك”، قائلاً: “وداعاً للنبيذ. ولكن أية حياة هذه”.
وآخر تدوينة فيسبوكية له، كانت قبل حوالي ثلاثة أسابيع من رحيله، أخبر فيها عن قرب صدور كتابه “ملائكة يحرسون الغابات”، مرفقاً التدوينة بمقطع صغير:
“زارني نسناس كأنه أبي يطاردني في الأزقة الضيقة
ولا مهرب أنا الواقف خلف هذا الباب
لا أحد ينتظر مجيئي
كأنني يتيم في هذه اللحظة وقد تبخر من رأسي دخان الأزمنة”.
هكذا تتوالى نداءات الموت وتكبر مواكب الراحلين. مواكب خلف مواكب تأذن بنهاية الحكايات في مأتم طويل.. ولا مهرب. هي “حياة واحدة وسلالم كثيرة”.. كلها تفضي إلى الهاوية التي تحدثت عنها الأغنية الغيوانية.. و”لا من يأخذ بأيدينا”، إلا من يوصلنا إلى “عزلة تفيض عن الليل”:
“بالكاد تصل خطوتك إلى هناك
فوق حجر الطفولة،
بالكاد ترفع عينك إلى سماء غائمة
خالية من الطير
وأنت تلهث لأنك أتيت بأقدامك أولاً
ثم شممت الأرض
لأنك تزحف كخرقة
تدفعها ريح الحنين
إلى النهاية”.