“نيويورك تايمز”: هجمات “البيجر” تُغيّر العالم

إن الهجمات الوقحة التي شنَّتها إسرائيل على حزب الله، الأسبوع الماضي، عبر تفجيرها آلاف أجهزة النداء الآلي (البيجر) وأجهزة الاتصال اللاسلكي، وأزهقت أرواح 37 شخصاً على الأقل، وتسببت بإصابة الآلاف بجراح خطيرة، توضح بشكل واضح وصادم مدى التهديد الذي لطالما حذَّر منه خبراء الأمن السيبراني لسنوات، وهو: أن سلاسل التوريد الدولية للأجهزة والمعدات الإلكترونية تجعل العالم كله عُرضة للخطر "لأننا لا نملك أي وسيلة جيدة للدفاع عن أنفسنا"، بحسب الخبير في الأمن الإلكتروني بروس شنايدر (*)

بالرغم من أن التفجيرات القاتلة، التي وقعت في مناطق متعددة من لبنان يومي 17 و18 أيلول/سبتمبر، كانت صاعقة، فإن أياً من العناصر التي إستُخدمت في تنفيذها لم تكن بجديدة. فالأساليب (التكتيكات) التي استخدمتها إسرائيل لتفخيخ أجهزة حزب الله تشبه (إن لم تكن نفسها) الأساليب المتبعة على مدى سنوات من قبل أطراف مختلفة (منها إسرائيل نفسها) لاختطاف سلاسل توريد دولية وزرع متفجرات بلاستيكية في في أجهزة إلكترونية. الجديد فقط هو أن إسرائيل جمعت عناصر التفجير بطريقة مدمرة ومبالغ فيها، الأمر الذي يُبرز بشكل واضح وصارخ كيف سيبدو مستقبل المنافسة القائمة بين القوى العُظمى في زمن السلم، وزمن الحرب، والمنطقة الرمادية بينهما الآخذة بالإتساع باستمرار.

الأخطر في ما حصل هو أن أهداف مثل هذه العمليات لن يكونوا “الإرهابيين” وحدهم فقط. فأجهزة الكمبيوتر التي بأيدينا وأيدي الناس كلهم معرضة هي أيضاً للخطر، وكذلك الحال بالنسبة لسياراتنا وثلاجاتنا وأجهزة منظمات الحرارة (التدفئة والتكييف).. والعديد من الأشياء المفيدة الأخرى التي نستخدمها في منازلنا ومستشفياتنا ومكاتبنا ومدارسنا وملاعب الرياضة.. الأهداف ستكون في كل مكان.

إن العنصر الأول في هذه العملية، وهو زرع المتفجرات البلاستيكية في أجهزة “البيجر” والاتصال اللاسلكي، كان يشكل خطراً إرهابياً منذ حاول ريتشارد ريد، المعروف باسم “مفجر الحذاء”، إشعال بعض المتفجرات على متن طائرة في عام 2001. وهذا هو الغرض من أجهزة المسح الضوئي المنتشرة اليوم في جميع مطارات العالم، سواء تلك التي نراها عند نقاط التفتيش الأمنية أو تلك التي تفحص أمتعتنا لاحقاً. تكفي كمية ضئيلة من المتفجرات حتى تُسبّب قدراً هائلاً من الضرر.

عياش

إن العنصر الثاني، وهو الاغتيال بواسطة الجهاز الشخصي، ليس جديداً أيضاً. لقد سبق واستخدمت إسرائيل هذا الأسلوب، مثلاً عندما اغتالت أجهزة الأمن الإسرائيلية (“الشاباك”) صانع القنابل في حركة “حماس” يحيى عيَّاش، في عام 1996، عبر تفجير هاتفه المحمول (من طراز “موتورولا ألفا”) تم تفخيخه بنحو 50 غراماً من المتفجرات. وكذلك عندما اغتالت سميح الملاعبي، عام 2000، بتفجير شحنة متفجرة زرعتها في هاتفه المحمول (**).

الجزء الأخير والأكثر تعقيداً من الناحية اللوجستية من خطة إسرائيل، هو استهدافها لسلاسل التوريد الدولية وتعريض المعدات الإلكترونية للاختراق والخطر على نطاق واسع.

وهذه الطريقة ذاتها استخدمتها أيضاً الولايات المتحدة نفسها، وإن كان لأغراض مختلفة. فقد سبق أن اعترضت وكالة الأمن القومي الأميركية أجهزة ومعدات اتصالات، تابعة لشركة اتصالات سورية، أثناء نقلها وعملت على تعديلها، ليس لأغراض مدمرة ولكن للتنصت.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن إحدى الوثائق التي سرَّبها إدوارد سنودن تؤكد أن وكالة الأمن القومي الأميركية فعلت ذلك لجهاز التوجيه (راوتر) من نوع “سيسكو” مخصص لشركة اتصالات سورية. ومن المفترض (منطقياً) أن هذه لم تكن العملية الوحيدة من هذا النوع التي قامت بها الوكالة.

إن إنشاء شركة صورية (واجهة) لخداع الضحايا ليس حتى تطوراً جديداً. إذ يُقال إن إسرائيل أنشأت شركة وهمية لإنتاج وبيع أجهزة محملة بالمتفجرات وبيعها لـ”حزب الله”. وفي عام 2019، أسس مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (أف. بي. آي) شركة وهمية باعت أجهزة هواتف محمولة، يفترض أنها كانت آمنة، لـ”المجرمين” – ليس لاغتيالهم ولكن للتنصت عليهم ثم اعتقالهم.

خُلاصة القول: إن سلاسل التوريد لدينا غير محصنة ومعرضة للخطر، ما يعني أننا- كأفراد أو شركات وحتى حكومات – معرضون للخطر. وأنه يمكن لأي فرد، أو دولة، أو مجموعة تتفاعل مع سلسلة توريد عالية التقنية التلاعب بالمعدات التي تمر عبرها. يمكن لأي طرف تخريب هذه المعدات لغايات مختلفة: للتنصت أو للقتل (…).

في الواقع، إن الأجهزة الشخصية المتصلة بالإنترنت معرضة للخطر بشكل خاص. ففي عام 2007، أظهر مختبر “أيداهو” الأميركي أنه يمكن تفجير مولد كهربائي كبير عبر هجوم إلكتروني . وفي عام 2010، تعرضت أجهزة طرد مركزي في منشأة نووية إيرانية لـ فيروس كمبيوتر يُعتقد أنه من عمل الولايات المتحدة وإسرائيل. وفي عام 2017، تضمن تقرير نشرته وكالة المخابرات المركزية الأميركية معلومات عن إمكانية تعطيل أي محرك أي سيارة عن بعد (“ويكيليكس” ذكرت أن هذا الأسلوب يُستخدم لتنفيذ “اغتيالات غير قابلة لاكتشافها“).

وفي عام 2017، تضمن تقرير نشرته وكالة المخابرات المركزية الأميركية معلومات عن إمكانية اختراق محرك أي سيارة عن بعد (“ويكيليكس” ذكرت أن هذا الأسلوب يُستخدم لتنفيذ “اغتيالات لا يمكن اكتشافها تقريبا”). وهذا ليس مجرد نظرية: ففي عام 2015 سمح مراسل مجلة “وايرد” للمتسللين بالاستيلاء على سيارته عن بعد أثناء قيادتها. وقد عطلوا المحرك أثناء وجوده على الطريق السريع.

لقد بدأ العالم بالفعل التأقلم مع هذا التهديد. فقد أصبحت العديد من البلدان حذرة وقلقة بشكل متزايد بشأن شراء معدات الاتصالات من بلدان لا تثق بها. كما أن الولايات المتحدة نفسها ودول أخرى تُحظر استيراد أجهزة توجيه (راوتر) كبيرة من شركة “هواوي” الصينية، خوفاً من أن يتم استخدامها لأعمال التنصت، أو أن تلجأ الصين إلى تعطيلها عن بُعد – وهذا هو الأسوأ – في حال تفاقم العداء بينها وبين تلك الدول. ففي عام 2019 كان هناك ذعر بشأن قطارات مترو الأنفاق المصنوعة في الصين والتي كان من الممكن تعديلها للتنصت على الركاب.

إقرأ على موقع 180  "إخوان سوريا" والمصالحة الخليجية.. رهانات مفتوحة!

ليس فقط المعدات الجاهزة هي التي تخضع للفحص بواسطة الماسح الضوئي. فقبل أكثر من عقد من الزمان، حقَّق الجيش الأميركي في المخاطر الأمنية المترتبة عن استخدام الأجزاء الصينية في معداته. وفي عام 2018 كشف تقرير لـ”بلومبرغ” أن المحققين الأميركيين اتهموا بكين بتعديل رقائق (شرائح) الكمبيوتر لسرقة معلومات.

ليس من الواضح بعد كيف يمكن الدفاع عن أنفسنا ضد مثل هذه الهجمات وما شابهها. سلاسل التوريد عالية التقنية ومعقدة ودولية. ولم يثر ذلك أي قلق لدى “حزب الله” لأن أجهزة “البيجر” التي يستخدمها تأتي من شركة مقرها المجر والتي حصلت عليها من تايوان، لأن هذا النوع من الأشياء طبيعي تماماً. فمعظم الأجهزة الإلكترونية التي يشتريها الأميركيون تأتي من الخارج، بما في ذلك هواتف “آيفون” التي تأتي أجزاؤها من عشرات البلدان قبل تجميعها في الصين في المقام الأول.

هذه مشكلة يصعب حلها. ولا يمكننا، مثلاً، أن نتخيل واشنطن تمرر قانوناً يُلزم بتصنيع هواتف “آيفون” بالكامل داخل الولايات المتحدة. فتكاليف العمالة مرتفعة جداً، والقدرة المحلية على صنع هذه الأشياء غير متوفرة. كما أن سلاسل التوريد دولية ومعقدة ولا هوادة فيها، وبالتالي فإن أي تغيير في نوع وشكل عمل سلاسل التوريد يتطلب إعادة الاقتصادات العالمية إلى ثمانينيات القرن العشرين.

إذن، ماذا يحدث الآن؟

بالنسبة لـ”حزب الله”، فإن قادته وعملاءه لن يثقوا بعد الآن بأي معدات متصلة بشبكة. ويبدو أن هذا على الأرجح أحد الأهداف الأساسية التي من أجلها عمدت إسرائيل إلى تفجير أجهزة “البيجر” الأسبوع الماضي. ويبدو أيضاً أن العالم سيضطر لأن ينتظر لمعرفة الآثار التي ستخلفها تلك الهجمات، وما إذا كانت ستكون آثاراً طويلة الأمد أم لا، وكيف سيرد حزب الله عليها.

ولكن الآن، وبعد أن تم تجاوز الخط الفاصل، فمن شبه المؤكد أن دولاً كثيرة؛ بمن فيها المتقدمة جداً؛ ستبدأ في النظر إلى هذا النوع من الأساليب باعتبارها ضمن الحدود المسموح بها. يمكن نشرها ضد القوات العسكرية أثناء الحرب أو ضد المدنيين في الفترة التي تسبق الحرب. وستكون الدول المتقدمة؛ مثل الولايات المتحدة؛ عُرضة للخطر وتحت التهديد بشكل خاص، وذلك ببساطة بسبب العدد الهائل من الأجهزة المعرضة للخطر التي تمتلكها.

– ترجمة بتصرف عن “نيويورك تايمز“.

(*) بروس شنايدر، خبير في تكنولوجيا الأمن، ومؤلف كتاب “عقل الهاكر: كيف يعمل الأقوياء على توجيه قواعد المجتمع، وكيف تثنيهم في المقابل“.

(**) يحيى عياش، كان أبرز قادة كتائب عز الدين القسام (الجناح العسكري لحركة “حماس”)، اشتهر بقدرته الفائقة على تصنيع المتفجرات وتنفيذ هجمات معقدة ضد أهداف إسرائيلية، ما جعله هدفاً رئيسياً لأجهزة الأمن الإسرائيلية (الشاباك) التي اغتالته في 5 كانون الثاني/يناير 1996. سميح الملاعبي، كان ناشطاً بارزاً جداً في حركة “فتح” اغتالته إسرائيل في مخيم قلنديا للاجئين- شمال القدس المحتلة في 17 كانون الأول/ديسمبر 2000.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "الخونتا" اللبنانية.. ونزلاء السجن الكبير