ملحمة الحدود لا تحتمل هويتين.. “إما نحن وإما نحن”

ذات يوم قيل للقائد الجهادي للمقاومة الشهيد عماد مغنية أن تجهيز الجندي الأميركي أو الإسرائيلي يُكلّف 10 آلاف دولار، فردَّ بالقول: "ونحن يُكلّفنا تجهيز المجاهد الواحد روحيته التي تقاتل.. وبها يقاتل وينتصر" .

ثمة علاماتٍ فارقة تُقال في لحظة احتدام النزال البري الحدودي، وثمة ما لا يُقال إلا في حينه إذا حان، وبين هذا وذاك، تسطع يقينية “الملاحم الحدودية” التي يكتبها المقاومون ببطولة استشهادية فاقت حدّ الإدهاش، وروحية تخطت حدود الإبهار، تخطي حد السؤال كيف وماذا يحكمها من فوارق العلامات؟

أولى هذه العلامات الفارقة هي عقائدية توجب قتال المحتل الظالم وجوباً شرعياً لا لبس فيه ولا تفسيرات ولا جدال “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار” وتصل الى ملحمة كربلاء الاستشهادية، إذ عمّدت العقيدة بالدم الحسيني الثائر على ذاك الراكز “بين اثنتين بين السلة والذلة”، وهو دمٌ يرضعه كل مقاوم منذ ولادته، ويتشربه في حيّه، ويعيشه في بيئته، ويُجدّد دمه في عاشوراء كل عام، حتى يبلغ المكانة التي هو فيها الآن من المقام الحدودي الذي يموضعه على خط الدفاع الأول لنيل “إحدى الحسنيين نصرٌ أو شهادة”، تماماً كمن فاز أو نالها من قبل وانتصر. فيما جنود جيش الاحتلال نقيض ذلك، يغزون هذه الحدود بمعتقدات هجينة وشتان بين معتقد وعقيدة، خصوصاً اذا كان المعتقد شتات أساطير خرافية لصهيونية سياسية تقوم على موروث تاريخي موهوم، وهيكل عظمي مزعوم، لم ينفع معه خرابٌ أول وثانٍ لوقف المهزلة الموعودة بنص توراتي مزور: “اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا، أَتْبَعُ أَعْدَائِي فَأُدْرِكُهُمْ، وَلاَ أَرْجعُ حَتَّى أُفْنِيَهُمْ”. نصٌ يضع المقاومة في خندق الدفاع عن الإنسانية جمعاء.

العلامة الفارقة الثانية هي الجغرافيا التاريخية؛ فهؤلاء المقاومين أدرى بالجغرافيا التي عنها يدافعون، على قاعدة “أهل مكة أدرى بشعابها” ولأنهم أبناء هذه الأرض، أرض قراهم التي ولدوا وترعرعوا وعاشوا فيها؛ أرض أهلهم وأجدادهم الذين في ترابها ماتوا، فإنهم يقاتلون بتاريخها، الذي رووه لهم في ليالي الشتاء القارس حول مواقدهم، ودرسوه في مدارسهم ودوراتهم، وفهموا تعاقب الغزاة عليها وهزائمهم، ما يجعل المرحلة القتالية الحاضرة، مجرد حقبة تاريخية من تلك العهود الغابرة، وامتداداً طبيعياً لسياقها الحدثي. فيما التنين الاسرائيلي رابضٌ على “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” محيلها منصةً لاغتصاب مزيد من الأرض، فاغراً فاه على مزيدٍ أكثر من أرض الغير، متكئاً في ذلك على “منحة” من إلهٍ مجهول المصدر، له نصه المختَرع “كل أرض تدوسها أقدامكم في لبنان والبرية أعطيها لكم”، بهذا أعطوا لأنفسهم مغامرة الغزو البري إلى لبنان، وبه داسوا أرض فلسطين التي ليست لهم ويريدونها من البحر إلى النهر.

هكذا فجأة يقفز جنون نتنياهو التوراتي المفبرك من غزة الى تعميم نموذجها في لبنان والمنطقة وصولاً الى إيران فلا يعود القطاع و”حماسه” هما الهدف، ولا التالي هو لبنان ومقاومته، ولا المنطقة ودويلاتها منذ “سايكس بيكو” هي الطموح، بل يوضع ذلك كله في حزمة واحدة بعنوان “محور الشر الإيراني”، ويختلط التاريخ بالجغرافيا في تمدد المطاط الصهيوني وصولاً إلى “أسرلة” المنطقة وتغيير خارطتها السياسية والأمنية والإقتصادية إلى شرق أوسط إسرائيلي جديد. ولكن بين واقع الجغرافيا، وحقيقة التاريخ، تبقى إسرائيل فترة من التاريخ وليست قطعة من الجغرافيا.

العلامة الفارقة الثالثة روحية – نفسية ما بين إثنين:

الأول، غازٍ مهاجم لأرض ليست له وهو يدرك ذلك في قرارة نفسه، مستسلماً لقرارٍ سياسي كاذب بالغزو تحت ذريعة “إعادة سكان الشمال”، لا يهمّ الجندي الذي همّه الوحيد إنتهاء الغزو بعودته إلى الديار، وأن لا يموت في المعركة، وغايته النجاة والحياة، لا تحقيق الهدف بأي ثمن.

الثاني، مقاومٍ مدافعٍ حتى الرمق الأخير، بروحه ودمه وجسده، عن أهله وأرضه وعرضه، بروحية الكرامة الوطنية والتضحية الذاتية بالحياة والإيثار البالغ حدّ الفداء. الأول، يُقاتل مُدججاً بحديد السلاح الأميركي الحديث، لكن بروحٍ مهزومة مسبقاً قبل أي خطوة خارج الحدود وقبل أن تقاتل، والثاني، يُدافع ويجود بروحه وبروحيته، إذ تمسي “الروح هي التي تقاتل” وليس الجسد الذي يستشهد، وذلك على قاعدة “أَعِرِ اللَّهَ جُمْجُمَتَكَ، تِدْ فِي الْأَرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ”.

***

باجتياحه الجوي للمدنيين، وبمجزرتي الاتصالات، واغتيال قادة “الرضوان” وغيرهم من القادة وصولاً الى اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، راهن العدو على كيّ هذه الروحية وإسقاطها وكاد أو هُيّئ له، لكن ملحمة الحدود الجارية أعادت تنشيط هذا الوعي أكثر مما كان عليه، وأجهضت مفاعيل الكيّ، إلى حيث تريد المقاومة ومنظومتها القيمية، التي تجعل المسألة الآن باختصار، أن ما يجري على هذه الحدود لا يتعلق فقط بنتائج المعركة ومصير الحرب بل باتجاه بوصلة المرحلة، ولبنان وربما الإقليم وما بعده.

العلامة الفارقة الرابعة فارق بين جيلين: فالجيل الذي يقاوم الآن هو جيل حرب تموز/يوليو 2006 فالذي وُلِدَ في تلك الحرب ويبلغ عمره الآن 18 عاماً فتح عينيه على السيد حسن نصرالله، ونهل من معينه الذي لا ينضب باستشهاده، وتربى وتدرب في مدارس القادة الذين استشهدوا معه وقبله، ممن اكتسبوا خبرة قتال لا تقل عن عقد من الزمن، ويقاتلون منذ سنة على جبهة إسناد غزة، ما يؤهله أن يتصدى للتوغل الصهيوني باحترافية ويُحوّله إلى فرصة طال انتظارها، وبدل أن يستدرج الاسرائيلي المقاومة إلى حرب شاملة، تستدرجه إلى حرب برية تريدها، تنزله من الجو ملعبه المتفوق فيه، إلى أرضها التي يعرف كل مقاوم جغرافيتها كما يعرف كفه، ويحفظ بيوتها كما يحفظ تفاصيل بيته، ربما يؤهله لدفاع وهجوم في آن واحد كما يحدث فيما الجندي الغازي المولود عام 2006 لا يعرف من جنوبي لبنان حجراً ولا شجراً ولا حبة تراب. وهذا ما يجعل الملحمة الجنوبية تتجاوز عنصرها التكتيكي إلى بُعدها الاستراتيجي.

إقرأ على موقع 180  "الغاز" و"عُقَد" العَقد المصري.. استجرار "التطبيع"!

*** 

منذ الثلاثاء في الأول من تشرين الأول/أكتوبر الحالي، لم تعد المسألة إعادة مستوطنين إلى الشمال. حركة الاستيطان الاسرائيلية عرضت إعلانات لبيع عقارات للمستوطنين في جنوبي لبنان وألمحت إلى أننا “على بعد قرار استراتيجي واحد من هذا الحلم لنواصل قضم جنوب لبنان ومنع سكانه من العودة”.

لم تعد المسألة إبعاداً للمقاومة عن الحدود حدّ الإزالة من الوجود، بل باتت لمن يبقى هذا الوجود، وهذه الأرض لمن.

وإذا كان “على هذه الأرض ما يستحق الحياة“، فإن المقاومين يدركون، أن على هذه الأرض ما يستحق المقاومة، ومع الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش يكملون:

“هذه الأرض لا تتسع لهويتين/ إما نحن وإما نحن/ نحن الباقون وهم العابرون”.

Print Friendly, PDF & Email
غالب سرحان

كاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180   من تونس إلى لبنان.. عندما يكبر الحلم