منذ هجوم “البيجر” والأجهزة اللاسلكية مروراً باغتيال عدد من قادة المقاومة اللبنانية وصولاً إلى الزعم بوجود أنفاق تحت المرافق المدنية في بيروت مع نشر خرائط مزورة لها، تحاول إسرائيل الإيحاء بأنها قادرة على معرفة ما تريد ومعرفة كلِّ شيء، والوصول إلى حيث تريد والى من تريد.
أثبتت التطورات الممتدة من لحظة “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر حتى يومنا هذا أن إسرائيل تملك من القدرات والتقنيات والأساليب والمصادر ما يُمكنها من الوصول إلى أماكن ما كنا نتصور حتى أسابيع خلت أنها قادرة على الوصول إليها.
انعكس هذا الأمر حالة غير مسبوقة من القلق وعدم اليقين والخوف لدى جمهور المقاومة في لبنان، واستغل قادة إسرائيل سلسلة من الإنجازات لمحاولة ترسيخ ثابتةٍ لدى شارعهم وفي عقول أعدائهم (كي الوعي): نحن قادرون على معرفة كل ما نحتاج معرفته وقادرون على الوصول إلى كل من نريد الوصول إليه. نقاشات كثيرة على وقع صدمة اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ومن ثم رئيس المجلس التنفيذي في الحزب السيد هاشم صفي الدين كان محورها أنه لا بُد من الإقرار باستحالة مواجهة إسرائيل.
بلغ الوهن في لحظات معينو الكثيرين من المعادين لإسرائيل والرافضين للتطبيع معها بأي حال من الأحوال. فالسبيل الأوحد، قالوا، هو انتظار معجزة تتحقق من تلقاء نفسها من دون عناء الحرب والدماء والدمار (الثمن الطبيعي دائماً لتحصيل المستضعفين حقهم وحريتهم). معجزة من نوع انقلاب في النظام العالمي يُزيل سطوة داعمي إسرائيل على العالم، فتزول هي من تلقاء نفسها أو مواجهة إسرائيلية إيرانية لا تبقي ولا تذر في المنطقة إلخ..
لم ينتظر الميدان هذه المعجزة أو تلك، بل تطورت المواجهة بالشكل الذي لم تكن ترغب فيه إسرائيل، ووفق السيناريوهات التي كانت تتوق المقاومة إليها، أي المواجهة البرية.
ما تستطيع إسرائيل فعله ببراعة هو القتل والحرق والتدمير. تُدمّر في لبنان كما فعلت في غزة، تقتل وتُشرّد وتستعرض وصولاً إلى اللاذقية والحُديدة. لا يحتاج القتل والتدمير إلى كل تلك الآلات المتطورة والحديثة التي يتفاخر بها قادة إسرائيل. لكن يعجز كلّ هذا الدمار العظيم عن إسكات قاذف مقاوم هنا أو بندقية مقاوم هناك
تقتضي الواقعية التأكيد أن إسرائيل تتفوق في مجالات تكاد تكون حاسمة (الأمن والمخابرات والتكنولوجيا والأسلحة المتطورة والدعم الأميركي والغربي غير المحدود)، ولكن لا بدّ من التأكيد على ما عادت وثبّتته الأيام الـ25 من محاولات التوغل البري في جنوب لبنان: كما أن لكلّ شيء في هذا الكون حدوداً، هناك حدودٌ أيضاً لقوة إسرائيل. وهذا الإستنتاج بيّنته محطات من المواجهة الطويلة في لبنان وفلسطين، وقبلهما على جبهتي مصر وسوريا. مثلما أكدته غزة على مدى أكثر من عام.. ويؤكدها لبنان الآن.
وتُثبت وقائع ما بعد استنفاد بنك الأهداف الإسرائيلية على الصعيدين الأمني والعسكري أن هناك حدوداً للقدرة الأمنية لإسرائيل ومن يقف خلفها وحولها. وتكفي هنا مشاهدة المقاطع المصورة لقادة المقاومة الشهداء في مناسبات معينة يحيط بهم أشخاص أقدم من بثّ المقاطع على تغطية وجوههم للتأكيد أن رفاق أولئك الشهداء استلموا الراية ويواصلون الدرب، وذلك بشهادة الميدان أيضاً. ولو كانت إسرائيل قادرة على الوصول إلى هؤلاء لما انتظرت طائراتها وقنابلها الأميركية لحظة للنيل منهم، ووصولاً إلى حسم المعركة مرة وإلى الأبد.
وثمة قيادة كاملة الأوصاف تقود الجبهة ليل نهار وتعجز إسرائيل عن الوصول إليها، وإن كانت ثابتة التفوق الإسرائيلي لا تلغي احتمال الوصول إلى قيادي هنا أو هناك بحكم سنّة المواجهة.
ولا يجب أن يفوت أحدٌ أن أهم أسباب حدود القوة الإسرائيلية هو قوة الخصم (حزب الله) وإن كان قد تلقى ضربات قاسية وغير مسبوقة على مدى شهر ونيف.
هنا يمكن بثقة سرد الكثير عن عجز العدو. ستتكرَّر كلمةُ “عجز” فيما تبقى من سطور، لكننا نستند إلى حقائق مثبتة ولسنا بوارد المبالغة.
بالرغم من السيطرة المطلقة على أجواء الجغرافيا المحدودة للمواجهة، سواء بالطائرات أو بالأقمار الصناعية الإسرائيلية والأميركية والغربية، يعجز العدو عن منع إطلاق الصواريخ بالكثافة والوتيرة والمدى الذي تُقرّره قيادة المقاومة. يعجز أيضاً عن منع وصول هذه الصواريخ إلى أهدافها بالرغم من نجاح جزئي هنا أو هناك. يُثبت الميدان يومياً أن إسرائيل سبق أن عجزت عن الوصول إلى السلاح الاستراتيجي لدى المقاومة، وتُكذِّب صافرات إنذار تل أبيب وحيفا وطبريا وصفد وعكا وكريات شمونة ونهاريا يومياً كلَّ ما كانت قد ادعته إسرائيل. تعجز عن حماية غرفة نوم بنيامين نتنياهو من مُسيّرة تعبر عشرات الكيلومترات فوق الدفاعات الجوية الأكثر تطوراً وكثافةً وبالقرب من أحدث الطائرات والمروحيات المستنفرة حصراً لإسقاطها لتصل إلى هدفها البعيد بأمان. مواجهة المُسيّرات قصة عجز بحد ذاتها في إسرائيل، ولعل نموذجها الأفدح اقتحام إحدى المُسيّرات مطعم قاعدة عسكرية إسرائيلية في بنيامينا جنوب حيفا من دون أن تتمكن الرادارات الإسرائيلية من رصدها، وتؤدي إلى سقوط ما لا يقل عن مائة بين قتيل وجرح.
يعجز جيشها عن تحريك مدرعاته وآلياته نحو قرى الحافة الأمامية في الجنوب اللبناني وحين تُدمّر آلية أو دبابة تعجز عن سحبها مع قتلاها ساعات طويلة، ويكفي رصد الإعلام العبري لتعداد كم مرة صارت تتكرر عبارة “حدث أمني صعب في الشمال”.
كل أطنان المتفجرات والفوسفور والكثافة النارية التمهيدية غير المسبوقة تعجز عن تمهيد دخول آمن للغزاة إلى أرض الجنوب. والأصح القول إنها تعجز عن إجبار من يتلهّف شوقاً للالتحام بالغزاة على ترك موقعه أو البقعة التي يتحصن فيها. يعجز هنا العقل عن تفسير هذا الصمود واللسان عن وصفه.
كل الرقابة العسكرية غير المسبوقة على مجريات الميدان تعجز عن إخفاء الملحمة التي تواجهها القوات الغازية والخسائر التي تتكبدها على أرض الجنوب اللبناني.
أما ما تستطيع إسرائيل فعله ببراعة فهو القتل والحرق والتدمير. تُدمّر في لبنان كما فعلت في غزة، تقتل وتُشرّد وتستعرض وصولاً إلى اللاذقية والحُديدة. لا يحتاج القتل والتدمير إلى كل تلك الآلات المتطورة والحديثة التي يتفاخر بها قادة إسرائيل. لكن يعجز كلّ هذا الدمار العظيم عن إسكات قاذف مقاوم هنا أو بندقية مقاوم هناك.
يستطيع قادة الجيش الإسرائيلي التباهي والتظاهر وإطلاق العنان لعنتريات لا يلبث أن يدوسها أبناء الجنوب الرابضين في التلال أو المتوارين بين الأشجار أو السابحين في الوديان وغيرهم من حُرّاس القرى الحدودية الأمامية.
نعم تستطيع إسرائيل بدعم حليفتها فرض اتفاقيات أو معاهدات على بقاعٍ من الأرض العربية، لكنها تعجز منذ 40 عاماً عن استثمارها في الشارع العربي جيلاً بعد جيل. أما عجزُها الأخطر الآتي فسيكون عدم القدرة على تبرير كلِّ ذلك العجز، بالرغم من كلّ تلك القوة وكل ذاك القتل. وحين لا يجد الإسرائيلي أجوبة على أسئلة كثيرة، لن يكون أمامه سوى التسليم بحقيقة طالت محاولات طمسها: إسرائيل عاجزة عن الانتصار، وعاجزة عن إثبات القدرة على البقاء. وهكذا سيتحدد مستقبل من يحكم تلك الأرض، وعندها لن يصدِّق أحد كلام هرتسي هاليفي أو الناطقين باسم جيشه، سواء على أرض فلسطين أو على أي أرض أخرى.