رئيس لبنان أميركي ـ إيراني.. ومن لاعبي “الإحتياط”؟

حكومة نجيب ميقاتي مستمرة في تصريف الأعمال حتى إنتخاب رئيس لبناني جديد. هذا أهون الشرور. ترف الفراغ الرئاسي لا يُناسب أحداً، داخلياً وخارجياً، لكنه يتقدم على ما عداه. وحتى لا نستطرد كثيراً، لنذهب إلى صلب الموضوع؛ من هو رئيس جمهوريتنا المقبل؟

لبنان ليس جزيرة. أحواله، بقوة الحقائق والجغرافيا والتاريخ، متصلة بأحوال الإقليم. لن يكون مصيرنا منفصلاً عما يُرسم للمنطقة وربما أبعد منها..

لطالما مثّل لبنان قاعدة مهمة للولايات المتحدة في المنطقة. بناء سفارة أميركية ضخمة في عوكر بما رُصِد لها من إمكانات مادية ومساحات جغرافية ووظائف (متصلة بقاعدة حامات) لا يوحي بأن أميركا “تضبضب كلاكيشها”، كما يتوهم كثيرون. نفوذ أميركي في النقد والمال والإقتصاد والمصارف والقضاء والإعلام و”المجتمع المدني” والجامعات والمستشفيات والمؤسسات العسكرية والأمنية والأحزاب والشخصيات السياسية إلخ.. نفوذُ لا يضاهيه آخر.

القوة الثانية هي إيران، ليس بسفارتها الجديدة الناهضة شمال غرب المطار كقلعة محصنة، ولا بما تملك من جيوش أو قواعد بل بحزب الله، درة تاجها الإقليمي، اللاعب ما فوق المحلي الذي إستطاع في صيف العام 2006 منع إسرائيل من تحقيق أهداف حربها وشكّل ـ مع دول وقوى وميليشيات أخرى ـ أفضل متراس دفاعي حال أيضاً دون سقوط سوريا. “إنجازان” يوازي كل واحد منهما الكثير مما حققته الثورة الخمينية منذ 43 عاماً حتى الآن، فكيف إذا دخل في “الحسبة” صاروخ دقيق أو “مُسيّرة دقيقة” أو..؟

لا ينفي ذلك وجود “كومبارس” إقليمي ـ دولي تتقدمه فرنسا، فإذا سلّمنا بتفويضها أميركياً بإدارة الملف اللبناني، وضمن مساحة محددة (ملف ترسيم الحدود البحرية خارجها)، فإن باريس لم تثبت أنها تملك خطة واضحة في لبنان ولا كرّست لنفسها نفوذاً جدياً ووازناً ولا إستقلالية قرار. الآن، بات أقصى طموح إيمانويل ماكرون، ألا يُكرّر سيناريو 2020. لن يزور لبنان إلا عندما يكون هناك رئيس منتخب من البرلمان الجديد. يعني بقوة الوقائع اللبنانية “دبروا راسكم يا شباب”.. حتى أن ما تسمى “العودة السعودية إلى لبنان”، ليست ـ حتى الآن ـ إلا إندراجاً أو إنضباطاً تحت مظلة فرنسا اللبنانية، وبالتالي لا شيء إسمه “سياسة سعودية (وخليجية) في لبنان”!

أما موسكو، المنخرطة في حرب عالمية ثالثة، إنطلاقاً من الميدان الأوكراني، فإن مقتضيات أمنها القومي تُحدّد سُلم أولوياتها. رئاسة لبنان لا تندرج في هذه الخانة. أقصى طموح للروس أن “إنتخبوا رئيسكم المقبل ضمن الموعد الدستوري وبلا تدخلات خارجية. لا مرشح رئاسياً محدداً لروسيا”.

غير أن المسألة لا تتصل برغبات الدول. الأساس هو ما يجري من صياغات في الإقليم ومدى إنعكاس وقائعها على لبنان.. ومنها رئاسته.

***

أولاً؛ الملف النووي: غداة فشل مسار فيينا النووي، عوّل كثيرون على محطة الدوحة. لبّى الإيرانيون دعوة قطر وفتحوا الأبواب أمام الإتحاد الأوروبي ممثلاً بجوزيب بوريل. كانوا مستعدين لتقديم تنازلات وصولاً إلى لقاء مباشر مع الأميركيين مقابل رزمة حوافز بينها رفع العقوبات عن مؤسسات للحرس الثوري ابرزها “مؤسسة خاتم الانبياء” والسماح ببيع النفط لأوروبا خارج آلية العقوبات الأميركية وربط النظام المصرفي الإيراني بالـ”سويفت” العالمي. في قطر، تعرّف الإيرانيون، هذه المرة، “على روبرت مالي جديد” بالمعنى السلبي للكلمة، حسب روايتهم. طارت “الرزمة” وعادت المحادثات “إلى الوراء”. ما جرى هو تعبير عن أزمة ثقة مستعصية من جهة وحقيقة أن إدارة بايدن صارت أسيرة إنتخابات نصفية وشبح ترامبية عائدة، من جهة ثانية. هذا الفشل يطرح السؤال الآتي: هل الفرصة ما زالت متاحة أم أن العودة إلى الإتفاق النووي باتت صعبة؟

باريس لم تثبت أنها تملك خطة واضحة في لبنان ولا كرّست لنفسها نفوذاً جدياً ووازناً ولا إستقلالية قرار. الآن، بات أقصى طموح إيمانويل ماكرون، ألا يُكرّر سيناريو 2020. لن يزور لبنان إلا عندما يكون هناك رئيس منتخب من البرلمان الجديد. يعني بقوة الوقائع اللبنانية “دبروا راسكم يا شباب”

تتصرف معظم الأطراف الإقليمية على قاعدة أن الإتفاق النووي لم يعد مُتاحاً. لا يعني ذلك أبداً تقدم خيار الحرب التي لا يتمناها أحد، لا شرقاً ولا غرباً. المطلوب “تنظيم الّلإتفاق” (مثلاً، لا زيادة للتخصيب إيرانياً حتى نسبة 90% ولا عقوبات أميركية جديدة على طهران إلخ..)، وذلك من الآن حتى إنتهاء ولاية بايدن. الخيار الذي يحاذره الأميركيون هو إستمرار “حرب الظلال” (الإغتيالات وضرب السفن والحرب السيبرانية). الخطورة أنه خيارٌ قابلٌ للتدحرج في حال ضغط أحد الطرفين على الزناد من خارج قدرته على التحكم بردة الفعل الأخيرة.

الأمر الذي لا بد من الإقرار به أن إيران النووية، تقنية ومعرفة وخبرات، باتت جاهزة ولم يتبقّ لها سوى تحديد ساعة الصفر.. والنموذج الكوري الشمالي كفيل بتشجيع طهران على الذهاب في هذا الإتجاه، فهل يريد الإيرانيون ذلك فعلاً؟

هذا الملف الدولي يمكن “تقريشه” لبنانياً في ثلاثة إتجاهات: جبران باسيل كان يتصرف منذ لحظة فرض العقوبات الترامبية عليه بأنه سيربح جائزة “اللوتو” الكبرى فور عودة الإدارة البايدنية إلى الإتفاق النووي. سليمان فرنجية يعتبر نفسه الممثل الشرعي الوحيد لهكذا تفاهم دولي ـ إقليمي. ثالثهما هو قائد الجيش جوزيف عون. “فرصته” لا تتأتى إلا عبر تفاهم أميركي ـ إيراني!

***

ثانياً؛ جو بايدن في المنطقة: نُسج الكثير حول قمة جدة منتصف هذا الشهر. عنوانها الأبرز هو الأمن الطاقوي. زيادة إنتاج النفط الخليجي لأوروبا تعويضاً للغاز الروسي. كل ما قيل حتى الآن حول إنشاء “ناتو” إقليمي يضم إسرائيل والدول العربية “لا قيمة واقعية له”، كما يُردّد مسؤول عربي كبير.. لكن لا ينفي ذلك “أن لكل مشارك مواله”. الإسرائيلي أولويته إيران. أميركا تريد ضمانة النفط. العراق يحضر بشخص رئيس حكومته مصطفى الكاظمي مهجوساً بعدم إستفزاز أحد في الإقليم أو في الداخل العراقي. صياغة كاظمية تضمن للرجل ولاية جديدة على الطريقة الميقاتية في لبنان. الأردن ومصر تحدياتهما الإقتصادية ضاغطة أكثر من السياسة والأمن. وُزِِع جدول الأعمال ومسودة البيان الختامي للقمة، لكن التعديل وارد. ليس السؤال ماذا يقدم محمد بن سلمان لبايدن؟ العكس هو الصحيح. هل معادلة الحماية الأميركية التاريخية مقابل تدفق نفط الخليج ما زالت قائمة؟ إذا تعرضت “أرامكو” لضربة جديدة كما حصل في 2019، هل سيُوفر الأميركيون الحماية؟

محمد بن سلمان صار ملكاً سواء وضع بايدن يده بيده أم لم يضعها. لا يتصرف الرجل من موقع الضعيف. لا يريد المجاهرة بالتطبيع مع إسرائيل. يفتح خطوطه في كل الإتجاهات. بما في ذلك مع حزب الله. ما سرّبه الصحافي البريطاني ديفيد هيرست عن لقاء جمع نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم بالسعوديين في بيروت، قيمته بعدم صدور اي نفي له من الطرفين. القيمة الأخرى تتمثل بتفاهمات إعلامية غير مباشرة بين الجانبين تعرضت لخروقات محدودة جداً.. إستضافت بغداد وفوداً أمنية مصرية وأردنية وإماراتية جلست وجهاً لوجه مع الإيرانيين للمرة الأولى، وذلك في موازاة الجولة الخامسة بين السعوديين والإيرانيين. الجولة السادسة التي يُفترض أن تعقد على مستويات دبلوماسية رفيعة المستوى، لم يُحدد موعدها، لكن الأمر مرهون بتمرير موسم الحج وعيد الأضحى. لماذا؟

إقرأ على موقع 180  "حزب السلاح".. والميليشيات في أمريكا!

قدّم السعوديون من التسهيلات ما يفيض عن طلب حملات الحج الإيرانية عدداً وطائرات وتحويلات مالية إلخ.. النقطة الثانية تتصل بالوضع اليمني. هي مربط الخيل. إتفق السعوديون والإيرانيون على وجوب أن يكون الحل يمنياً ـ يمنياً. ثمة مرحلة إنتقالية تتضمن تثبيتاً لهدنة كلما طال أمدها كلما إزداد رسوخاً.. يمكن القول إن اليمن هو مفتاح التطور الجدي في العلاقات السعودية الإيرانية بما في ذلك التبادل الدبلوماسي. حتماً ستستفيد باقي الساحات وأولها العراق وآخرها لبنان.. وحتماً ما بعد قمة جدة ليس كما قبلها. كيف سيتصرف الأميركيون نووياً وكيف سيتصرف السعوديون طاقوياً؟ هل يندفع بايدن خلال الأسابيع المقبلة لإبرام تفاهم نووي يفاجىء الجميع؟

***

لكل مسار ما قد يليه. النوايا السعودية الإيرانية تشي بوجود إرادة سياسية بفتح صفحة جديدة بين البلدين، برغم إعترافهما بأزمة الثقة المتبادلة. في العقل العميق للدولتين أن بايدن ربما صار من الماضي. بطة عرجاء قبل الإنتخابات النصفية.. ولي العهد السعودي لا يريد خذلان صديقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. طهران لا تستعجل سياسة إدارة الظهر للغرب ولا تريد خسارة النافذتين الروسية والصينية. الأهم، أن أذرعة إيران في المنطقة صارت أكثر رسوخاً. لا خطر على الحوثيين باليمن ولا على الفصائل العراقية ولا على حزب الله أو الدولة السورية. هل يفضي ذلك إلى صياغات لأدوار هؤلاء في بلدانهم كما على مستوى الإقليم في ظل ثبات الأنظمة التي يتواجدون على أرضها؟

***

إستضافت بغداد وفوداً أمنية مصرية وأردنية وإماراتية جلست وجهاً لوجه مع الإيرانيين للمرة الأولى، وذلك في موازاة الجولة الخامسة بين السعوديين والإيرانيين. الجولة السادسة التي يُفترض أن تعقد على مستويات دبلوماسية رفيعة المستوى، لم يُحدد موعدها، لكن الأمر مرهون بتمرير موسم الحج وعيد الأضحى

هذه المشهدية تفضي إلى أن العالم يمر بمرحلة إنتقالية. منطقتنا تعطي الكثير من الأمثلة. هدنة في اليمن وسوريا والعراق ولبنان. فلسطين منسية. إسرائيل المأزومة على موعد مع إنتخابات تشريعية هي الخامسة في ثلاث سنوات ونيف.. هل يستطيع لبنان أن “يزمط بريشه” رئاسياً؟

أمامنا إحتمالات عديدة، قاسمها المشترك أن رئيس جمهورية لبنان المقبل سيُصنع في المطبخ الأميركي ـ الإيراني. لقد تعب الداخل من نظرية “الماروني القوي” (نموذج ميشال عون). أما الخارج فقد تعب أكثر من كل مرشح رئاسي لا يستوفي الشروط الإصلاحية وربما ينطبق ذلك أولاً على سليمان فرنجية.

ثمة إلتزام أبداه رئيس مجلس النواب نبيه بري، بالدعوة إلى أول جلسة لإنتخاب رئيس جديد للجمهورية في الأسبوع الأول من أيلول/سبتمبر المقبل. وظيفة الدعوة جس نبض الكتل والنواب المستقلين.. والمرشحين. إذا توافر نصاب الـ 86 نائباً، هل يفوز لبنان برئيس من أول جلسة؟

لا يبدو ذلك متاحاً. لسنا أمام فراغ مديد كما حصل قبل إنتخاب ميشال عون (سنتان وخمسة أشهر) ولا فراغاً قصير الأمد. لا بد من فراغ يسبقه سقوط المهل الدستورية لموظفي الفئة الأولى، ويكون كفيلاً بفتح الباب أمام مرشحين من فئة الجالسين دائماً في “صف الإحتياط”.

***

تتألف حكومة في لبنان أم لا تتألف، ليست قضية بذاتها. هي مجرد وسيلة أو أداة. إما تُحسّن أو تُضعّف ظروف مرشح أو ناخب؛ فإن إنعقد النصاب السياسي الرئاسي في موعده، تصبح ولادة حكومة ميقاتية جديدة أقرب ما تكون إلى صورة العهد الجديد (التكليف يبقى قائماً بقوة الإستشارات النيابية الملزمة). أما إذا ذهبنا إلى الفراغ، فإن الحكومة مجرد وسيلة لتنظيمه في إنتظار الصافرة الرئاسية. ما هو مثالي لجبران باسيل أن يمتلك الثلث المعطل في حكومة جديدة تلتزم مسبقاً بالتعيينات الإدارية في 29 وظيفة فئة أولى، بما يضمن له نفوذاً مديداً في مفاصل أساسية في الدولة، لسنوات مقبلة، لكن مثل هكذا فرصة لن يُوفرها أحد له، في آخر عهد “الجنرال”، ولو كان الثمن “لا حكومة”، وهذا هو المرجح.

ومن يُراقب نتائج إنتخابات رئاسة المجلس النيابي وهيئة مكتب المجلس النيابي، يستطيع الإستنتاج أن قدرة تعطيل الإستحقاق الرئاسي متوفرة “وطنياً” بقوة إمتلاك الثلث المعطل ضد كل الخيارات الرئاسية “المُعلنة”: جعجع وباسيل وفرنجية (وحتى ضد خيار التعديل الدستوري). التواضع السياسي يقضي بشطب إسم جعجع، فالرجل لن يجد قبالته ثلثاً معطلاً وحسب بل ما يزيد عن الثلثين. يسري ذلك على جبران باسيل المُعاقب دولياً وعربياً ولبنانياً. لن يجد الرجل محلياً أكثر من كتلته (وربما كتلة نواب حزب الله مع وضع مليون سطر تحت عبارة “ربما”)، إلا أن هذين المرشحين المارونيين بمقدورهما تكرار سيناريو 2015، بتآزرهما ضد خصمهما المشترك سليمان فرنجية. لا يحتاجان سوى إلى أقل من أصابع اليد الواحدة من إجمالي النواب السياديين التقليديين أو الجدد لكي يفيض الثلث المعطل على طول الطريق من إهدن إلى بعبدا، قاطعاً الطريق على زعيم تيار المردة. أما إذا قرر باسيل مسايرة حزب الله بتبني ترشيح فرنجية في هذه الدورة، فهذا وحده لا يُوفّر نصاب الثلثين لمصلحة فرنجية، إلا إذا إلتزم النواب التغييريون بعدم إستخدام سلاح التعطيل، كما يُردّدون من لحظة إنتخابهم حتى يومنا هذا!

نحن نتحدث هنا عن عوامل محلية ربما تكون هذه المرة هي الأضعف في صياغة هوية رئيس لبنان المقبل. ما ردّده جعجع مؤخراً بأن قائد الجيش جوزيف عون “هو أحد الأسماء الجديّة المطروحة إذا ما فُتح المجال الدستوري” لا يتعدى حدود الإقرار بإستحالة فرصة “الحكيم”. لا “كلمة سر” يملكها أي طرف محلي بما في ذلك حزب الله. ربما يحاول السيد حسن نصرالله، هذه المرة، تأكيد “إلتزامه الأخلاقي” مع مرشح بعينه، ثم كفى الله المؤمنين شر القتال. يطرح ذلك سؤال الخارج مُجدداً وباقي المرشحين المحتملين من خارج “الإنبوكس” السياسي التقليدي.. للبحث الرئاسي صلة.. بل صلات.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "الدولار الجمركي" بين المخاوف المشروعة والموارد المطلوبة