قيادة المقاومة السياسية والتنظيمية، العسكرية والأمنية، استطاعت بسرعة قياسية خلال ليالٍ عشر، احتواء فاجعة الاستشهاد، واستيعاب اغتيال قادة “الرضوان” وغيرهم، وقبلها ضربة “البيجر” ومن ثم شهادة السيد هاشم صفي الدين. وقبل حلول أربعين “السيد” الشهيد، تم انتخاب أمين عام، وملء كل الشواغر بدون استثناء، وانتظمت الأمور واتسقت وتناسقت في بوتقة قدّمت خلالها قيادة المقاومة نموذجها وفرادتها في استعادة القدرة على التحكم والسيطرة وسلب العدو رهانه على اهتزازها وفقدانها توازنها، بفعل سلسلة ضرباتٍ متتالية، قد لا تنجو منها جيوشٌ ودولٌ وأنظمة، لكنها هنا تستحيل أربعيناً، فتَحَ “السيد” في كل يومٍ منها نصراً جديداً، وكشف الغطاء عن حجم محبيه ومدى مريديه في العالم.
المقاومون أكثر المتأثرين بالنبأ العظيم، لم يتركهم ولم يتركوه، فهو بغيابه عنهم حاضر فيهم، لا هو لديهم في منصب رئاسة أو موقع زعامة، ولا هم عنده في موضع موظفين أو مستفيدين، هو أبوهم في روحية الجهاد وهدفية النصر، وغاية الاستشهاد، يعرفهم كأبنائه فرداً فرداً، ويعرفونه كأبيهم مغبوطاً يوم استشهد هاديه معهم، وهم أبناؤه في المقاومة وتحرير البلاد جيلاً إثر جيل، يواكبهم الآن بطيفه، يتنزل عليهم بروحه فيهم، يقاتلون فيها فيشتدّ بها بأسهم الشديد، لكأنهم باستشهادهم داخل بيوت الحدود وأنفاقها، أرادوا مواساته باستشهاده تحت أرض الوطن، ولكأن تأخر تشييع بعضهم هو مساواةً لتشييعه الذي لم يأتِ بعد، فهو باقٍ هنا لم يغادر، وهم هناك حيث يَنشُد العدو “حزاماً أمنياً” فيقطعون حزامه قبل وضعه، ويحرقونه بحزام ناري “مليّن الحديد” و”مقلاع داوود” وما بينهما وخلفهما من منظومات دفاعية لا تملك زمام الدفاع عن نفسها أمام صاروخٍ آتٍ من رعب الشمال، أو تحت مسيّرة صغيرة واحدة من مسيّراتهم التي تسري بهم ليلاً نهاراً نحو المسجد الأقصى وطوفانه.
لا يمرّ الثالث على ارتحال “السيد” عن أحبّ الناس إلى قلبه، حتى يعتبرها العدو فرصة للقضاء عليهم، فينقضّ عبر الحدود نحوهم، يتوهم وهنهم بغياب سيدهم وما أدراه أنهم بغياب جسده يقوون بروحه تُصدّح بعدوّهم: “إذا جاءت دباباتكم إلى جنوب لبنان لن تعانوا نقصاً في دباباتكم لأنه لن تبقى لكم دبابات” ينفّذ “أخوة التراب” الوصية جماعةً على قلبِ سيدٍ واحد، يزرعون أجسادهم سداً منيعاً أمامها، يزرعونها جنباً إلى جنب سلاحهم، تحت كل زيتونة، خلف كل صخرة، داخل كل نفق، يرمون الغزاة بكل ما ملكت أيديهم من غضب الله ونيرانه، “وما بدلوا تبديلا”، يرتقي بعضهم سعيداً إذ يتساوى مع “السيد” ولسان الحال الكربلائي “أوفيت يابن بنت رسول الله”؟ لكن “السيد” يفوقهم سعادةً ويضاهيهم شهادة، فهو تساوى مع ذويهم بشهادة بِكرهِ، لكنه “واسى الصالحين بنفسه” إذ يجود بها بين المقاومين كأي مقاومٍ منهم وليس كونه أميناً عاماً لهم.
المقاومون أكثر المتأثرين بالنبأ العظيم، لم يتركهم ولم يتركوه، فهو بغيابه عنهم حاضر فيهم، لا هو لديهم في منصب رئاسة أو موقع زعامة ولا هم عنده في موضع موظفين أو مستفيدين، هو أبوهم في روحية الجهاد وهدفية النصر وغاية الاستشهاد، يعرفهم كأبنائه فرداً فرداً ويعرفونه كأبيهم مغبوطاً يوم استشهد هاديه معهم، وهم أبناؤه في المقاومة وتحرير البلاد جيلاً إثر جيل
وما وراء محاور الجبهات، وحدها بيئة المقاومة لها بيئاتها، بيئةٌ لم تفق من صدمة الاستشهاد وقد لا تفيق الا بعد تشييعٍ غير معلوم، وبيئةٌ أفاقت لكنها لا تريد أن تصدّق وما زالت تنتظر إطلالة “السيّد”، وبيئةٌ تحاول أن تصدّق لكنها تقول “أُغالبُ فيكَ الشوقُ والشوقُ أغلبُ” ولا تكابر، وبيئةٌ تصدّق لكنها لا تتقبل أن تُقال كلمة “السيد” لغيره، فهي خاصته وحده، وهي منه وله، ولدت وقضت معه وسيمرّ وقت طويل قبل ان تعتاد هذه البيئات كلها على بيئة من دون “السيد”.. وسيمضي دهرٌ قبل أن تتقبل أجيالها حياةً ليس “السيد” فيها، فاعتيادها على غيابه صعبٌ، واعتيادها على حضوره أصعب، لكن كل هذه البيئات ستلتقيه في أقسى عاشوراء مرت عليها، وسيبلغ حزنها المتحد بسواد عمامته ذروته في العاشر، إذ يُطلّ “السيد” منادياً فيهم “هيهات منا الذلة” وسيردون معه ويرددون؛”ما تركتك يا حسين”، وسيحتفل الجمع “بالنصر الثالث” كل عام على ترابٍ حرّ محرّر، مضمّخٍ بدماء الشهداء. وسيقيم له في الضاحية مزاراً “في مقام صدقٍ عند مليكٍ مقتدر” بما يليق بمجد الأولياء والشهداء.
المجد للشهداء لكن مجد لبنان والعرب والمسلمين والعالم أعطي لـ”السيد”؛ القائد الذي يشهد من خاصموه بأن رحيله خسارة للوطن وللأمة ولأحرار العالم، فهو بدون أن يُخطط أو يسعى أو يُقرّر، دخل بنفسٍ مطمئنة في حالة حبٍ خالصٍ مع ربه، وولج باب سلامٍ داخليٍ مع نفسه، خاطب قلبه فجعل خطابه يحيك نسيجاً من كل مذاهب الوطن المشظى وجعله يتشكل في حَرَمِ عباءته، وهو تجاوز حدود الوطن المستباح عابراً للطوائف والشعوب إلى فضاءات الأمة، إلى “طوفان الأقصى” على جبهات محور المقاومة لتحرير فلسطين. بهذا يبقى “السيد” حزناً مؤجلاً في حضرة الغياب، هو حزن عام عند القريب، وأسف عند البعيد، واعتراف بفرادته وفراسته وصدق مقالته حتى عند العدو، وهو أول حالة مقاومة لبنانية تمسي أيقونةً شعبيةً، تتكرس رمزاً عربياً ثم إسلامياً يبلغ حدود العالمية.
قالوا إن “السيد” تعب وأُرهِق بعد جهادٍ جاوز الأربعين من السنين، ولسان حالها نهج بلاغة الإمام عليّ في خطبة الجهاد “لقد نهضتُ بها وأنا دون العشرين وهاأنذا قد ذرّفت على الستين”، وقيلَ إن الله اختاره إلى جواره في عِلّيين، لأنه أدى قسطه للعلى، وكذا هو مآل عباد الله الصالحين، ولكن “السيد” ينتظر الجميع عند مفترق الأربعين، أربعينه هو، ومع الحسين في كل أربعين، يريد لبيئته أن تنجب “زعتراً ومقاتلين” ومزيداً من المقاومين، لتحرير فلسطين، وأن تواكب وتحمي وتكون برداً وسلاماً للمجاهدين، حاضنة لهم في كل حين، لا وقت للتعب والإرهاق، ولا مكان لليأس والإحباط، برغم بلوغ وجع الفَقد، درجة قول الإمام الخامنئي “إن فقدان السيد حسن نصرالله جعلنا في حالة حِدادٍ يشبه الحِداد على الحسين (ع)”.
“في القصص والأفلام السعيدة، يموت البطل في النهاية، ويخرج من وراء المسرح حياً يُرزَق، لماذا لم تخرج أنت أيضاً يا أبتي؟ ألستَ أنت بطل قصتي”؟