مثّلت محاولة دونالد ترامب الثالثة لدخول البيت الأبيض قصة تاريخية فى حد ذاتها، بعدما نجح عام 2016 وفشل عام 2020، وهو الذى جاء مكسرا ومطيحا بكل قواعد التقاليد السياسة الأمريكية الراسخة، ونجح فى السيطرة المطلقة على الحزب الجمهورى، ويؤمن مناصروه أن انتخابات 2020 قد تمت سرقتها منه ومنهم. ومنذ خروجه من البيت الأبيض يوم 20 يناير/كانون الثاني 2021، واجه ترامب سيلا من الاتهامات الجنائية، أسفرت إحداها عن حكم بالإدانة من قبل هيئة محلفين فى ولاية نيويورك بتهمة تزوير السجلات التجارية فيما يتعلق بمدفوعات مالية سرية لنجمة أفلام إباحية فى الأيام الأخيرة من حملة عام 2016، بينما يقول ترامب إنه برىء وقرر استئناف الحكم.
بعد إعلانه الترشح لانتخابات 2024، واجه ترامب انتخابات تمهيدية داخل الحزب الجمهورى مع أكثر من 10 منافسين، بمن فيهم نائبه الأسبق مايك بنس، لكن معظمهم انسحبوا قبل المؤتمر الحزبى الذى شهدته مدينة ميلواكى بولاية ويسكونسن فى يوليو/تموز الماضى.
***
جاء هذا الانتصار بعد حملة انتخابية تاريخية مليئة بالتقلبات والمنعطفات غير المسبوقة ومحاولتين لاغتياله، وذلك بعدما تمت إدانته جنائيا فى الوقت ذاته. وبهذا الفوز يصبح ترامب أكبر الرؤساء سنا فى التاريخ الأمريكى الذى يصل للمنصب إذ يبلغ عمره 78 عاما. وهزم ترامب نائبة الرئيس كامالا هاريس، التى دخلت هذا السباق قبل ما يزيد قليلا عن 100 يوم بعد إقناع الرئيس بايدن، الذى فاز فى الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطى، بالتنحى بعد تراجع واضح فى قدراته الذهنية والعقلية.
قام ترامب بحملته الرئاسية الثالثة حيث ركز على إخفاقات إدارة جو بايدن – كامالا هاريس. واستغل الرئيس الأسبق بعض سياسات بايدن المختلفة عن سياساته كأسباب لارتفاع التضخم وتفاقم أزمة الحدود الأمريكية الجنوبية مع المكسيك.
واجه ترامب انتخابات تمهيدية مزدحمة للحزب الجمهورى، لكنه ظهر باعتباره المرشح الأوفر حظا مرة أخرى، حيث هزم خصومه بسهولة – الذين أيدوه جميعا فى النهاية ليكون الرئيس الـ 47 للولايات المتحدة.
صمدت أمريكا 4 سنوات تحت حكم ترامب، وصمدت أمام رفضه المستمر الإقرار بهزيمته فى انتخابات 2020، وصمدت أمام اقتحام الآلاف من مناصريه لمبانى الكونجرس لعرقلة توثيق الانتخابات. ويبقى السؤال هل سيتحدى ترامب قواعد الديموقراطية الأمريكية فى سنوات حكمه، أم ستمر السنوات القادمة بالعواصف والضجيج والأزمات التى لا يمكن لترامب الاستغناء عنها
***
قبل أيام فقط من قبول ترشيح الحزب الجمهورى رسميا فى مؤتمره العام، نجا من محاولة اغتيال فى تجمع حاشد، فى 13 يوليو/تموز، فى مدينة بتلر بولاية بنسلفانيا. لكن بعد أسابيع وفى شهر سبتمبر/أيلول تحديداً، تعرض ترامب لمحاولة اغتيال ثانية حيث اختبأ قاتل آخر محتمل فى أشجار تحيط بملعب ترامب الدولى للجولف فى ويست بالم بيتش بولاية فلوريدا. إلا أنه تم ضبطه من قبل عملاء الخدمة السرية الأمريكية دون أن يصاب ترامب بأذى. على العكس مما تصوره أغلب المراقبين وخبراء السياسة الأمريكية، استطاع دونالد ترامب، الرئيس الأسبق، أن يصبح الرئيس القادم بعدما هندس عودة سياسة هى الأكثر إثارة للدهشة فى التاريخ الأمريكى.
اكتسح الرئيس الأسبق والرئيس القادم الولايات السبع المتأرجحة المحددة لهوية ساكن البيت الأبيض الجديد، ولم يكتف ترامب بأغلبية أصوات المجمع الانتخابى، بل تقدم فى التصويت الشعبى بعدة ملايين من الأصوات وهو أول جمهورى يفعل ذلك منذ عام 2004. حقق ترامب انتصاره من خلال تشكيل ائتلاف جديد، إذ زاحم الديموقراطيين ونجح فى اجتذاب الكثير من أبناء الطبقات العاملة غير الجامعيين من السود واللاتينيين إلى القاعدة التقليدية للحزب الجمهورى من الناخبين البيض.
أنشأ ترامب هذا التحالف من خلال معارضة سياسات بايدن – هاريس بشأن الاقتصاد والتضخم والحدود، وتكرار تعهداته باستعادة عظمة أمريكا. وكما كان فى انتخابات 2016، نجح ترامب فى تقديم نفسه للمرة الثانية كمرشح التغيير.
***
تحديات ضخمة تنتظر ترامب، فالمشهد الدولى فى حالة فوضى سواء من أوكرانيا إلى تايوان إلى الشرق الأوسط. سيكون لدى ترامب مجلس شيوخ جمهورى، كما أنه لا تزال هناك فرصة ضئيلة ليسيطر حزبه الجمهورى على أغلبية مجلس النواب الديموقراطى، وتدعم ترامب محكمة عليا ذات أغلبية من القضاة المحافظين الذين عُين ترامب 3 منهم.
وفى رئاسة ترامب المقبلة، لن يرتدع ترامب بمحاولة إعادة انتخاب أخرى، ولن يكترث بأى محددات حزبية أو تعهدات قديمة سبق وأطلقها. وسيعود ترامب للبيت الأبيض يوم 20 يناير/كانون الثاني المقبل وإلى جواره إيلون ماسك وتاكر كارلسون وروبرت كينيدى جونيور، وعدد آخر من الشخصيات الاستثنائية.
لا نعرف بعد إذا ما كان ترامب سيفى بتعهده بالإفراج عن مئات السجناء ممن شاركوا فى محاولة تمرد مسلح باقتحام مبنى الكابيتول لعرقلة التصديق على انتخابات 2020.
***
يُتهم ترامب بالفاشية، ويتطلع ليكون ديكتاتورا أمريكيا منتخبا. لم تكن لكلمات جون كيلى، جنرال مشاة البحرية المتقاعد ورئيس موظفى ترامب الأسبق فى البيت الأبيض، ومنها أن ترامب فاشى الطباع، أى تأثير على ولاء الأمريكيين لترامب. قد سبق وتعهد ترامب بأن يكون «ديكتاتورا» من شأنه أن «ينهى» الدستور ويضع الجيش فى الشوارع، وسبق وهدّد خصومه السياسيين الذين يسميهم «حثالة»، و«حشرات»، و«أعداء الداخل» بالسجن، فى حين وعد أنصاره بأنهم لن يضطروا إلى التصويت مرة أخرى بمجرد فوزه.
صمدت أمريكا أربع سنوات تحت حكم ترامب، وصمدت أمام رفضه المستمر الإقرار بهزيمته فى انتخابات 2020، وصمدت أمام اقتحام الآلاف من مناصريه لمبانى الكونجرس لعرقلة توثيق الانتخابات. ويبقى السؤال هل سيتحدى ترامب قواعد الديموقراطية الأمريكية فى سنوات حكمه القادمة، أم ستمر السنوات القادمة بالعواصف والضجيج والأزمات التى لا يمكن لترامب الاستغناء عنها.
(*) بالتزامن مع “الشروق“