بين كنيسة دير ميماس ومساجد الجنوب.. العدوّ واحدٌ

لم يستفزَّني مشهدُ جنودِ العدوِّ الإسرائيليِّ وهم يرقصونَ داخلَ كنيسةِ قريةِ دير ميماسَ الحدوديةِ المتّصلةِ ببلدتِي كفركلا ويسخرونَ من الصلواتِ والطقوسِ المسيحيةِ فيها عبرَ تقليدِها، بأقلَّ ممّا استفزّتني مشاهدُ هؤلاءِ القتلةِ وهم ينسِفونَ مساجدَ قرىً حدوديةٍ في الجنوبِ اللبنانيّ، ومنهم مسجدُ بلدتِي المذكورةِ وهم يُقهقهونَ كالسّكارى المجانين. 

لكنّ المسألةَ تتخطّى حيّزَ الاستفزازِ الشخصيِّ عندما تتعلّقُ بالانتماءِ الوطني، وتتجاوزُ حدودَ الوطنِ حينَ تصِلُ حدَّ التجرّؤِ على الذّاتِ الإلهيةِ وانتهاكِ حرمةِ بيوتِ الله، كما هو حالُ الكنيسة، أو نسفها وإحالتِها ركامًا كما هو حالُ المساجد، وفي الحالتينِ تتقاطعُ حقائق عدّة:

الحقيقةُ الأولى إسرائيلية، وهي أنَّ هذا الإسرائيليَّ لا مقدَّسَ أو مقدساتٍ لديه، إذ يُسقِطُ المقدَّسَ – كلَّ مقدَّسٍ وأيَّ مقدَّسٍ – تحتَ قدميه، لا فرقَ بينَ مقدَّسٍ مسيحيٍّ ومسلِمٍ بينَ جنبيه، بل جمعٌ يريدُ أن يحفرَ في المخيالِ الوطني إهانةَ المعتقداتِ الدينيةِ، مسيحيةٍ أو إسلاميةٍ، أو غيرِها على حدّ سواء. لكنّه بذلكَ يُسقِطُ أكذوبةَ نتنياهو بأنَّ هذا الجيشَ هو “الجيشُ الأكثرُ أخلاقيّةً في العالم” ليَبانَ أنه الجيشُ الأكثرُ تحلُّلاً وانحلالًا من الأخلاق ومن أيّةِ قيمةٍ أخلاقيةٍ أو إنسانيةٍ في الكون، وأنّه الجيشُ المتفَلِّتُ حتى من المعاييرِ المعروفةِ في جيوشِ العالمِ لقواعدِ القتالِ العسكرية، وأنه جيشٌ من القتلةِ المُشَرَّبينَ منذُ ولادتِهم البيولوجيةِ إلى مدارسِهم الفاشيستية، دروسَ التوحّشِ الغاباتي، وطرائقَ الافتراسِ الحيوانيِّ لكلِّ مَن هو سواهُم، وأنه جيشٌ سرطانيٌّ، كلُّ جنديٍّ فيه سرطانٌ فتّاكٌ بكلِّ كائنٍ حيٍّ سواه، فهوَ المزيلُ لكل مقوّمٍ من مقوّماتِ الحياة، وهو المدمِّرُ لكلِّ بناءٍ خارجَ كِيانِ الاغتصاب؛ اغتصابِ الأرضِ والعرضِ والمعتقلينَ والمسجدِ الأقصى وكنيسةِ القيامة، وحيثُ تطأ أقدامُهُم، في كنيسةِ ديرميماسَ أو مساجدِ جاراتِها من بيوتِ الله أو غيرَها ممّا يرَونها من فوقيَّتهم الغوغائيةِ أدنى من أراضٍ وشعوبٍ دونية، كما جاء في سِفرِ التثنية من توراتِهِمُ المزعومِ (2:14) “لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْض”.

الحقيقةُ الثانيةُ لبنانيةٌ، ركيزتُها أنَّ هذا العدوانَ الإسرائيليَّ المفتوحَ على لبنانَ بتقطّعاتٍ زمنيّةٍ منذُ عقودٍ وسنين، لم يكن في يومٍ ما استهدافًا لحزبٍ أو لتنظيمٍ أو لمقاومة فحسب، ولا لفئةٍ لبنانيةٍ دونَ أخرى، بل كان كلُّ كِيانٍ منهم مدخلًا لعدوانٍ جماعيٍّ على كِياناتٍ فرديّةٍ أو جماعيّة، كما حصلَ في حالةِ كنيسةِ دير ميماسَ ومساجدِ كفركلا وطيرحرفا وأمِّ التوت ومقامِ “شمعونَ الصّفا” في شمع، وهذا يضعُ الكلَّ في الكل؛ كلَّ القرى في كلِّ الجغرافيا؛ كلَّ المساجد في كلِّ الكنائس، وكلَّ الكنائسِ في كلِّ المساجد، ويُلئم المنقسمَ اللبنانيَّ على متّحدٍ واحد، يتّحدُ فيه ويختلط، حيّزَ العبادةِ معَ حيّزِ السيادة، ويحيلُ الخطابَ المتشظّيَ طوائفَ ومذاهب، من لعنةِ وطنٍ مفقودِ الأثرِ والتأثير، إلى لغةِ وطنٍ في المعنى والمبنى تُبحرُ في عمقِ الانتماءِ الوطنيِّ ما دام عدوُّ الكنيسةِ والمسجدِ واحدًا، فلا “تحريرَ مدارسَ منَ النازحين” بل تحريرُ كنائسَ منَ المحتلّين، كما تحريرُ المساجدِ بدماءِ المقاومين، ولا منابرَ سياسيةً تتبارى عليها اختلافاتُ السّياساتِ لاكتسابِ الأصواتِ في المزاداتِ الانتخابيةِ والمزايدات، ولا شاشاتَ زجاجيّةً تكسّرُ بعضُها بعضًا بدوافعَ شتّى، بدلَ اجتماعِها على شاشةً واحدةٍ موحَّدةٍ ضدَّ العدوِّ الواحدِ، عدوِّ الكلِّ، وَفقَ معادلةِ “عجِبتُ منِ اجتماعِ هؤلاءِ القومِ على باطلِهم وتفرُّقِكم عن حقِّكم” (الإمامِ عليٍّ).

الحقيقةُ الثالثةُ عربيّةٌ-إسلاميّةٌ، فلا “أمّةً عربيّةً واحدةً” منَ المحيطِ إلى الخليجِ ولو تلك التي تحيطُ بغزةَ ولبنانَ فحسب، ولا جامعةً عربيّةً فاعلةً إلا في خبرِ كان، وصار في قمةٍ عرجاءَ متأخّرةٍ عامًا عنِ الرَكب، فكلُّ قومٍ بما لديهِم غارقون، وبعضُهم حولَ بيتِ اللهِ العتيقِ يرقصون، يُفتَرَضُ أنَّ الناسَ من كلِّ فجٍّ عميقٍ إليه كلَّ عامٍ يحجّون، وليس عراةً يغنّونَ في رياض شبهِ الجزيرةِ العربية عبرَ فرقة “كتائبِ التوحيد” (كذا) في “ليلةِ السامريّ” وما أدراك من هو السامريّ! وما استحضارهُ هنا! ومن الذي جاء بهذا المسمّى إلى بلادِ الحجاز اليوم؟

وإذا وسّعتَ الدائرةَ العربيةَ إلى العالمَ الإسلاميَّ تراهُ يبني المساجدَ بالمئاتِ وربّما بالآلافِ في أربعِ جهاتِ الأرض، لكنْ حينَ يتعلّقُ هدمُ بعضِها بأيدي اليهودِ فلا عالمَ إسلاميًّا يسأل، ولا مسلمينَ يحزنون أو يحتجّون أو يتظاهرون، ولا منظّمةَ مؤتمرِ إسلاميِّ لم يهزَّها تدميرُ مساجدِ غزةَ سيهمّها تدميرُ مثلِها أو انتهاكُ كنيسةٍ في لبنان، ولا مَن يحاسِبُ أو حتى يستنكرُ أو يُدين، حتى وإن كانت المساجدُ والكنائسُ كلُّها لله، فهم في غيبوبةٍ دينيةٍ غيرُ آبهينَ على قاعدةِ “للبيت ربٌّ يحميه”.

الحقيقةُ الرابعةُ غربيةٌ، فالعالمِ الغربيِّ الذي لم تهزَّهُ محرقةُ 500 فلسطينيٍّ في مجزرةِ مستشفى “المَعمَداني” في قطاعِ غزة، لا يهزُّهُ انتهاكُ كنيسةِ دير ميماس، وإن كانَ المسيحُ باعتقادِ هذا الغربِ مرَّ من هنا وهو نفسُه هنا وهناك، وكنيسةُ “القيامةِ” ودير ميماسَ توأمَين، فكيف وفلسطينُ مهدُ “عيسى” نبيِّ الغربِ المفترَضِ في المعتقد؟ وكيف يتحوّلُ غربٌ – جوهرُ معتقدِه الدّينيِّ نقيضُ إسرائيلَ التوراتيّة – إلى خادمٍ خاتمٍ بيدِها؟ الجوابُ قد يكونُ في هذا “السُّعارِ التكنولوجيِّ العسكريِّ الرّهيب”، على حدِّ تعبيرِ الفيلسوفِ الألماني هيدغر” (1889-1976) وهو سُعارٌ لولاهُ لَما كان كِيانٌ اسمُه “إسرائيل”، ولا تواتُرٌ لسرديّاتٍ توراتُها ما بينَ مقامِ “شمعونَ الصّفا” المنسوفِ في بلدة شمع بقضاء صور وانتهاكِ كنيسةِ مار ميما في بلدة دير ميماسَ بقضاء مرجعيون بما جادت به مصانعُ الغربِ من أحدثِ الأسلحةِ والقنابلِ والطّائراتِ المتدفّقةِ لشتاتٍ مُعادٍ للأديانِ وللإنسانيّة قال عنهمُ الفيلسوفُ “نيتشه”(1845-1900) في كتابِه “أصل الأخلاق وأصولها”: “لقد كانوا ذلك الشعبَ الكهَنوتيَّ الحقودَ بلا منازع”.

إقرأ على موقع 180  كامل مروة..  قال كلمته ومشى 

الحقيقةُ الخامسةُ والأخيرةُ دوليةٌ، فلا حماياتٍ أمميّة لدُورِ العبادةِ العالميّة، ولا محاكماتٍ لجيوشٍ ومسؤولينَ عن انتهاكِها، حتى قرارَ المحكمةِ الجنائيّةِ الدوليةِ باعتقالِ رئيسِ وزراءِ العدوِّ الصِّهيونيِّ وزير حربه السابق بتهمةِ ارتكابِ جرائمِ حربٍ وجرائمَ ضدَّ الإنسانيّةِ يبقى حبراً على ورق حتى ولو كان من ضمنِ مندرجاتِ هذه الجرائمِ تدميرُ المساجدِ وانتهاكُ الكنائس، فثمّةَ فرنسا “مسيحيةٌ” وعدَتهُ بتوفيرِ حصانةٍ من المحاكمةِ الجنائية، وهناك قبلَها أولًا وآخِرًا أميركا حيثُ ولاياتُ “المسيحيّةِ الصِّهيونيّةِ” المحكومةِ بأيديولوجيّةٍ إثنو-ثقافيّةٍ شتاتيّة، تمخّضت عن تأسيسِ هذهِ الإثنوقراطيّةِ السّرطانيّةِ في فلسطين وقدسها الحزينة مع الشاعر نزار قباني:

“يا قدسُ، يا مدينةَ الأحزان..

يا دمعةً كبيرةً تجولُ في الأجفان

من يوقفُ العدوانَ عليك؟ يا لؤلؤةَ الأديان..

من يغسل الدماءَ عن حجارةِ الجدران؟

من ينقذُ الإنجيل؟ من ينقذُ القرآن؟

من ينقذُ المسيحَ ممّن قتلوا المسيحَ؟

من ينقذُ الإنسان”؟

Print Friendly, PDF & Email
غالب سرحان

كاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الشهر الأول لـ"الطوفان".. فشل إسرائيلي كبير