سُنّة لبنان.. من “بارودة الغزاوي” إلى صورة “السيد” ـ طقوش!

من اعلان جامعة الدول العربية أنها لم تعد تُصنف حزب الله "منظمة إرهابية" وانعقاد لقاء هو الأول من نوعه منذ ثماني سنوات بين الأمين العام المساعد للجامعة حسام زكي ورئيس "كتلة الوفاء للمقاومة" محمد رعد، إلى ما يجري من حراك بين أنقرة ودمشق يُتوقع أن يُتوج بتطبيع العلاقات بين العاصمتين، مروراً باللقاء القيادي الأول من نوعه منذ سنوات بين حزب الله والجماعة الإسلامية، ثمة ما يستدعي التدقيق والتحليل.

من دون سابق إنذار أطلّ مفتي البقاع علي الغزاوي، مؤخراً، في لقطة مصورة، حاملاً بندقية في تشييع القيادي العسكري بالجماعة الإسلامية أيمن غطمة. صورة قدّمت مشهدية جديدة لأحد رموز مؤسسة دار الإفتاء الإسلامية السنية في لبنان، لم نشهد مثيلاً لها حتى في عز زمن الحرب الأهلية اللبنانية، وهي تطرح إشكاليات عديدة ربطاً باللحظة الفلسطينية (طوفان الأقصى) واللحظة اللبنانية (جبهة المساندة التي قرر حزب الله أن يجعلها رديفة للمعركة الرئيسية على أرض قطاع غزة، بشراكة كاملة مع الجماعة الإسلامية). كما تتصل بالتموضع الإستراتيجي لسنة لبنان حين تضع هذه الحرب أوزارها، في ظل اصطفاف معظم النظام الرسمي العربي ضد “الإسلام السياسي”، ولا سيما بشقه السني، إلى حد جعله “عدواً” يتقدم على ما عداه.

هذا المشهد المتداول للمفتي علي الغزاوي لم ينته في لحظته، بل جرى تضخيمه ليُصبح مادة تسويقية للموقف الصادر عن أعلى مرجعية روحية في البقاع، فإذ باليافطات تعم قرى بقاعية دعماً للغزاوي وفيها ما يجعله على صورة القيادي الحمساوي الراحل الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي اشتهر في مرحلة الانتفاضة الثانية بمقطع حمل البندقية في قلب غزة داعياً شبابها إلى الانخراط في مشروع مقاومة المحتل الإسرائيلي على أرض فلسطين.

وثمة اعتقاد جازم أن القيادات الروحية الرسمية السنية على امتداد الشارع اللبناني، باتت أسيرة الخطاب العالي السقف الذي وضعته الجماعة الإسلامية وأخواتها في لبنان منذ اندلاع عملية “طوفان الأقصى” والانخراط الفعلي في خيار المواجهة مع إسرائيل؛ هذا السقف الذي بات يُعتبر بمثابة امتحان أخلاقي لمدى التزام المفتين وموظفي دار الفتوى بخيارات لا تجعلهم يندرجون في خانة من يجري تصويرهم بأنهم سلّموا بالهزيمة!

هذا السقف المرتفع والذي قد تكون أثمانه باهظة مستقبلاً، هو محط حوار داخلي على مستوى جمعيات ومبادرات وشخصيات إسلامية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وقد خرج جزء من المشاركين فيها بخلاصة مفادها أن ما يجري اليوم من تعبئة سنية للانخراط في مشروع مواجهة إسرائيل، يشبه إلى حد كبير لحظتين حسّاستين لدى هذا الجمهور، الأولى هي لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 والثانية هي لحظة “الثورة السورية” في العام 2011.

بالتوازي، تُركز مؤسسات بحثية محلية وأجنبية على أبعاد وتداعيات هذه الظاهرة الناشئة مع الجماعة الإسلامية و”قوات الفجر” (الجناح العسكري للجماعة)، وهناك من يضع موقف المفتي الغزاوي خانة الحماسة فقط، وليس تعبيرا عن تبدل عضوي في خيارات المكون السني اللبناني الذي سبق أن احتضن ظواهر كثيرة من هذا النوع، لكنه ظلّ دائماً يعمل على قاعدة أن المسلمين السنة “هم أهل الأمة، وبالتالي هم أهل الدولة ولا يمكن أن يكون لديهم أي مشروع خارج مشروع الدولة، بما في ذلك في سياق مقاومة المحتل الإسرائيلي”، كما يُردّد أحد المواكبين لمزاج الشارع السني من زمن المقاومة الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي إلى زمن يحيى السنوار في يومنا هذا.

في موازاة ذلك، الكل ينتظر مآلات الحدث التاريخي الذي أحدثته حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ولا سيما لجهة إعادة خلط الأوراق وفتح المجالات أمام تقييم كل المرحلة التاريخية السابقة، ولعل البداية من عند حماس نفسها التي توشك على طي مرحلة سابقة بدأت منذ 2005 (الإنسحاب الإسرائيلي من غزة) وبلغت ذروتها مع “طوفان الأقصى”، وبالتالي تتحضر، وفقاً لمندرجات الحرب التي تبدو واثقة أنها ستكون لمصلحة الشعب الفلسطيني، لإجراء عملية إعادة تموضع يجري التحضير لها مسبقاً ومن الآن، وليس لبنان عنها ببعيد، ولا سيما الشارع السني اللبناني، في سياق تثمير الأبعاد السياسية لـ”جبهة الإسناد” المستمرة منذ تسعة أشهر حتى الآن.

لكن أين تكمن المعضلة الرئيسية؟

الإيمان التاريخي للمسلمين السنة في لبنان بالدولة الوطنية والشرعية، هو عائق أساسي أمام حركة حماس وحلفاءها من السنة اللبنانيين، على اعتبار أن السنة وبعد الـ 2005 خرجوا من كل العباءات الإقليمية وحملوا لواء “لبنان أولاً” ودافعوا عن هذا الخيار برغم الأثمان الكبيرة التي دفعوها، بدليل أن التعاطف مع “الثورة السورية” لم يترجم لبنانياً سوى بدعم عاطفي إلى حد كبير، بدليل أن انخراط الشبان اللبنانيين في الحرب السورية لم يتجاوز المئات على مدى 13 سنة.

من هنا وفي لحظة الصراع المحتدم بين خيارات حزب الله الإقليمية وبين تمترس قيادات سياسية وروحية مسيحية خلف خيارات الحياد السلبي، أتى نشر صورة اللقاء بين الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وأمين عام الجماعة الإسلامية في لبنان محمد طقوش، وكأن له وظيفة تتعدى الصورة النمطية لهكذا لقاءات.

لذا، ينبغي قراءة هذا اللقاء من خلال الآتي:

أولاً؛ برغم أن قيادتي الحزب والجماعة أعادتا احياء علاقتهما منذ سنوات وتحديداً في عهد الأمين العام السابق عزام الايوبي، إلا أن لقاءات الجانبين بقيت بعيدة عن الإعلام، حرصاً من الجماعة على مراعاة بيئتها السنية التي كانت مهجوسة بالحدث السوري.

إقرأ على موقع 180  دراسة في مظاهر التعصّب اللبناني.. تويتر نموذجاً

ثانياً؛ بدا لقاء طقوش ونصرالله الذي امتد لأكثر من ثلاث ساعات، مختلفاً بالشكل والمضمون عن اللقاء الذي جرى في صيف العام 2020 بين الأيوبي والسيد نصرالله، والذي حضره حينها رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية وخرج الايوبي وهنية من لقاء الساعات السبع مع نصرالله، بالاتفاق على استمرار الحوار بموازاة تبريد الأجواء وخفض سقف الخطاب السياسي بين الجانبين. هذه المرة أكد الجانبان في بيان مشترك “على أهمية التعاون بين قوى المقاومة في معركة الإسناد للمقاومة ‏الباسلة في غزة وأهلها الصامدين الشرفاء”، والأهم من ذلك مناقشة برنامج أولويات من شأنه أن يفتح الباب أمام مرحلة جديدة في العلاقة بين الحزبين، وبالتالي طوى صفحة النزاع بين الجانبين ربطأ بمجريات الميدان السوري.

ثالثاً؛ أتت صورة هذا اللقاء تتويجاً لمسار انخراط الجماعة الإسلامية في معركة “طوفان القدس”، برغم استمرار معارضة أعمدة تاريخية في الجماعة لأي إعلان عن العمليات من الجبهة اللبنانية “ذلك أنه يُكرّس سطوة حركة حماس على القيادة الحالية للجماعة”، على حد تعبير أحد المعترضين.

رابعاً؛ من المقطع المصور للمفتي الغزاوي، إلى خطب الشيخ حسن مرعب، وانتهاءً بصورة نصرالله – طقوش، ثمة خيط رفيع يجعل مكوناً سنياً لبنانياً ومن خلاله بيئة وازنة، أقرب ما تكون إلى خطاب حزب الله، وكأن الحزب يُريد أن يُبت أن هناك من يتشارك معه في الأولويات والأهداف لبنانياً وأن من يريد أن ينأى بنفسه عن الصراع هو حر في خياراته، اي أن الإصطفاف الإسلامي مع فلسطين بات مكتملاً، لا سيما في ضوء موقف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بالإنحياز إلى المقاومة في لبنان وفلسطين في لحظة المعركة، رافضاً أي مساءلة أو نقاش “في حضرة الدم المُسال” على أرض غزة وجنوب لبنان.

خامساً؛ منذ ما عرف بـ”غزوة الاشرفية” في شباط/فبراير 2006 إلى التسوية السياسية التي عقدت بين الرئيسين سعد الحريري وميشال عون وتوّجت الأخير رئيساً للجمهورية في العام 2016، تم وضع المكون السني في لبنان في مواجهة المكون الشيعي، وتم إظهار أن حزب الله وحلفاءه هم الأحرص على المسيحيين في لبنان من المكون السني والذي ينظر إلى نفسه وفق قاعدة شهيرة تقول إنه “مَدَد وعَدَد”، لذلك وعلى مدار السنوات التي سبقت التسوية، روّج التيار الوطني الحر لنظرية تحالف الأقليات التي تحمي الوجود المسيحي المهدد من لبنان الى سوريا وليس انتهاء بالعراق. وعليه، فإن المصالحة السنية – المسيحية كان هدفها إيصال كل من ميشال عون وسعد الحريري إلى الرئاستين الأولى والثالثة، إلا أنها في الوقت عينه أخرجت السنة من بؤرة الصراع التاريخي بين المكونات المُؤسسة للدولة اللبنانية.

سادساً؛ إنّ تضخيم دور الجماعة الإسلامية عبر القول إن الاستحقاق النيابي المقبل (2026) سيُفرز كتلة أكبر للجماعة في البرلمان المقبل (ستة نواب على الأقل)، وبالتالي سيُكرس حضورها في أي حكومة مقبلة، ليس بريئاً، بل يأتي في سياق تضخيم دور هذا الطرف وجعله في عيون الآخرين، في الداخل والخارج، “خطراً قادماً”.

باختصار، إنها لحظة التاريخ الفاصل للسنة والتي قد تدخلهم في نفق كبير آفاقه غير جلية أو قد تعيدهم للدور التوافقي الجامع.

Print Friendly, PDF & Email
صهيب جوهر

صحافي لبناني وباحث مقيم في مركز "أبعاد" للدراسات الإستراتيجية في لندن

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  سوريا حائرة بين فك عزلتها وعاصفة تطبيع تحاصرها