كلا النتيجتين كانتا ترمزان إلى تغليب الضرورة على الشعور والعاطفة، ولذا فإن نظائر الإثنتين التي خيضت لاحقاً، بشكل أو بآخر، كانت قد كرّست النتائج نفسها من دون أي تغيير يذكر، وعليه راحت مفاعيل الخسائر المتزايدة تفعل فعلها في البنيان وصولاً إلى الإمام السادس، جعفر الصادق، الذي جاء مذهبه على قاعدة “أن ما تم خسارته في العسكرة والسياسة يمكن تعويضه عبر الإيديولوجيا”. ومع مجيء الحسين بن حمدان الخصيبي (358 – 426 هـ) كانت الرؤية قد تكاملت عند هذا الأخير عبر إيجاد تراجم “دينية” لمذهب الصادق، ومن حيث النتيجة أفضت إلى إنشاء طريقة صوفية للعبادة من النوع الحافظ لـ”الطائفة/الحزب”.
وبعد رحيل الخصيبي، برز تياران، الأول، يميل إلى تغليب الفلسفة، تحديداً اليونانية منها، بزعامة اسماعيل بن خلّاد، والثاني، يميل إلى التقرير الإلهي، حيث سينتهي الصراع بين التيارين بقدوم الميمون بن قاسم الطبراني إلى اللاذقية، عام 423 هـ، وقتله لبن خّلاد ومن ثم حرقه لكتبه الأمر الذي تابعه فيما بعد المكزون السنجاري، لتتخذ “الطائفة/الحزب” صورتها الصوفية التي راحت تنغلق على ذاتها بمفاعيل الأحداث والتطورات المتلاحقة.
كانت الحروب الصلببية (1095 – 1291 م) ثقيلة الوطأة على المنطقة التي كان الغرب ينظر إلى تركيبتها على الدوام على أنها حاملة لـ”جنين” قطب شرقي قادر على المنافسة في حلبة السيادة العالمية، لكنها كانت أكثر ثقلاً على العلويين الذين أفتى إبن تيمية (1261 – 1328 م)، في أتونها، بجواز الإستيلاء على أملاكهم وصولاً إلى تحليل سفك دمائهم بنتيجة الشكوك التي تولّدت لديه حول دورهم في تلك الحروب، ولم يكن العلويون في الحقبة العثمانية (1516 – 1916) في وضعية أفضل مما كانوا عليها في المرحلة آنفة الذكر، إذ لطالما نظر المذهب الحنفي، الذي تبنته الدولة العثمانية كمذهب رسمي لها، إلى كل الحركات والطرق التي تتبنى رؤى ومفاهيم خاصة بالموروث الإسلامي على أنّها “بدع” في الدين من الواجب محاربتها.
حجر “الباكورة السليمانية”!
ومع مرور سبعة قرون، هي مدة الحروب الصليبية والحقبة العثمانية، أضحى العلويون في القيعان السحيقة للمجتمعات التي يعيشون فيها، بل من الجائز القول إنّهم كانوا الأكثر تعرضاً للإضطهاد في الشرق، بالمقارنة مع باقي الأقليات التي يكتنزها هذا الأخير، الأمر الذي جعلهم بالضرورة بعيدين جداً عن “مجهر” القوى التي راحت تحركاتها تتكثف في المنطقة كنتيجة طبيعية لبروز عوامل التفكك والإنهيار في البنيان العثماني.
لربما كانت الصدفة هي التي وضعت هؤلاء أمام الضوء عام 1980، وهو العام الذي نشر فيه سليمان الأضني، وهو علوي لواءي فرّ إلى بيروت قبيل نحو عامين من هذا التاريخ، كتابه المعروف “الباكورة السليمانية في الديانة النصيرية”، ولربما لم تكن هي، أي الصدفة، وحدها المسؤولة، عن ذلك الفعل الذي كان أشبه برمي حجر ثقيل في بركة راكدة مُفضياً في النهاية إلى تسليط الضوء على جماعة، أثبتت أنها تتمتع بالديناميكية والحيوية اللازمتين دوماً للتنطح دوماً بأدوار محورية في محيطها، أو هي أكبر مما تتيحه لها قدراتها التي تبدأ عند الثقل العددي ولا تنتهي عند قبول المحيط بها إبّان أدائها لذلك الدور.
ومع الضعف العثماني المتنامي، والبارز بوضوح عبر استخدام القوة المفرطة منذ أواخر القرن التاسع عشر، راحت بوادر العصبية المذهبية (الروح الجمعية) تبرز عند العلويين في الجبال، حيث سيُشكل مجيء الإستعمار الفرنسي، الذي بدأ زمنياً على ضفاف سايكس- بيكو 1916 أقله إلى الساحل، فرصة لانتعاش تلك العصبية بفعل عامل الحريات التي اتسعت عن تلك السائدة في الزمن العثماني، وكذا بفعل توجه الفرنسيين نحو مد الجسور مع الأقليات كوسيلة أنجع، لبسط سيطرتهم على هذه البلاد.
كاسحة أكرم الحوراني
في أتون الحقبة الفرنسية، وبُعيدها، كانت الروح العصبية قد وجدت تراجم لها في سعيها الرامي لطي مرحلة التهميش المستمرة منذ سبعة قرون، والسبل في ذلك كانت عديدة، لكن الأبرز منها هو الجيش، على الرغم من انتفاء وجود أدلة تشير إلى أن ذلك التوجه كان مدروساً أو مخططاً له. ويقول المؤرخ السوري حنا بطاطو في كتابه “فلاحو سوريا” إن انضمام العلويين إلى الجيش حصل بفعل عاملين إثنين “الأول هو أن البدل الواجب دفعه للخدمة الإلزامية كان بحدود 500 – 600 ليرة سورية، وهو رقمٌ كان من السهل تأمينه على سكان المدن (السُنّة)، لكنه كان رقماً كبيراً، وهو يحتاج إلى مراكمة مواسم عدة لدى أهل الريف (العلويين)، والثاني أن العامل العشائري (السني) كان عاملاً مساعداً في إبعاد السنة عن التطوع في الجيش”.
العلويون اليوم، ما بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، أمام فرصة كبيرة وسانحة، للعودة والإنخراط من جديد في المجتمع السوري، ولربما كان سلوك العديد من قواهم وتياراتهم ونخبهم يُشير إلى أنهم عازمون على التقاط الفرصة، لكن الأمر يبقى مرهونا بمدى قدرة “الآخر” على تدعيم تلك الفرصة، وإطالة الوقت المحدد لها
ويُمكن للباحث أن يُضيف إلى ذينك العاملين عاملاً ثالثاً يُمكن اختصاره بالدور الذي قام به أكرم الحوراني، السياسي السني الذي وصفه باتريك سيل بـ”القابلة التي وُلِدت على يديها سورية الحديثة”، من خلال حزبه “الإشتراكي العربي” الذي كان أول حزب زراعي على امتداد المنطقة. ومن نافل القول إن العلويين، الفلاحين، كانوا على رأس قائمة المستفيدين من “كاسحة” الحوراني التي راحت تشق الطرقات أمامهم وصولاً إلى تبؤ مناصب قيادية في الجيش.
البعث و”دوائر الخوف”!
ومع وصول حزب “البعث” إلى سدة السلطة في آذار/مارس 1963، وانفراده بها في شهر أيلول/سبتمبر من هذا العام الأخير، كانت كتلة العلويين داخل الجيش وازنة إلى درجة تُتيح الإطباق على مفاصل السلطة، وهنا برزت رؤيتان، أولاهما لصاحبها صلاح جديد، الذي ارتأى، وبشكل صارخ، أن تركيبة البلاد لا تسمح بتربع العلويين على رأس هرم السلطة، فيما تقول الثانية، لصاحبها حافظ الأسد، إنه لا ضير في فعل من هذا النوع خصوصاً إذا ما كان “اللبوس البعثي” سيُمكن الفاعل من دحض أية اتهامات يُمكن أن تُوجه إليه في هذا السياق، وعليه فقد مضى الأسد نحو ترجمة رؤيته التي أضحت واقعاً معيوشاً منذ منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1970 فصاعداً.
لم يكن حكم حافظ الأسد طائفياً أو علوياً، لكنه كان يعتد بعصبية علوية كانت لازمة للحفاظ على أمنه الشخصي وأمن نظامه، ويقول المؤرخ حنا بطاطو في كتابه آنف الذكر إنه “لا وجود لأدلة على أن الأسد (الأب) أعطى في سياساته الإقتصادية تفضيلاً ملحوظاً لطائفته، أو أن غالبية العلويين كانوا يتمتعون بأسباب الراحة في الحياة أكثر من أغلبية الشعب السوري”، ومثله كان نظام الوريث – الإبن بشار الذي استخدم الطائفة كـ”وقود” لازم لاستمرار بقائه، فيما السياسات التي مورست على امتداد عهد الأسدين كان من شأنها رسم “دوائر الخوف” التي راحت تتسع، وتتسع، لتلعب دوراً مُعيقاً في سياق انخراط العلويين داخل مجتمعهم السوري، الأمر الذي أعاق، بالضرورة أيضاً، سير هذا المجتمع نحو “المصهرة” اللازمة لإنشاء مجتمع سياسي تعددي، وعلى الرغم من أن بعض الشرائح من العلويين كانت قد تأصلت فيها “الحالة المدينية”، بفعل مرور جيلين أو ثلاثة على عيشها داخل المدن، إلا أن إحساسها الطائفي ظل حاضراً على الدوام، الأمر الذي عزاه غولد سميث إلى “دوائر الخوف” التي عمل نظام الأسدين على توسعتها بمهارة فائفة.
دمج العلويين بمجتمعهم
العلويون اليوم، ما بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، أمام فرصة كبيرة وسانحة، للعودة والإنخراط من جديد في المجتمع السوري، ولربما كان سلوك العديد من قواهم وتياراتهم ونخبهم يُشير إلى أنهم عازمون على التقاط الفرصة، لكن الأمر يبقى مرهونا بمدى قدرة “الآخر” على تدعيم تلك الفرصة، وإطالة الوقت المحدد لها، مع تسجيل نقطة على درجة عالية من الأهمية لا بد لهذا الأخير/الآخر أن يكون مُدركاً لها، ومفادها أنّه من الخطأ مهاجمة “الجماعات التاريخية” التي نشأت نتيجة تراكمات طويلة لا ذنب للأجيال الحاضرة فيها، في حين أنه من الممكن مهاجمة الأفكار والسلوكيات المستحدثة لدى تلك الجماعات، خصوصاً إذا ما كانت مقارباتها لا تتناسب مع الواقع الراهن.
ولو أسقطنا الأمر الأخير على التظاهرات التي عمّت مدناً وبلدات ذات غالبية علوية، رداً على إحراق ضريح الإمام حسين بن حمدان الخصيبي في مدينة حلب، يتضح جلياً أن لا “برنامج مدروساً” يهدف في نهاية المطاف إلى إعادة دمج العلويين داخل مجتمعهم السوري الكبير ضماناً لوحدة سوريا وإعادة نهوضها مجدداً، أما مقاربة أحمد الشرع التي قال فيها إن “أحداث حصلت منذ 1400 سنة ما علاقتنا نحن بها”.. فلا يُمكن إدراجها حتى تحت زمرة “المسكنات”، فما الحال إذا كان المطلوب هو عقاقير علاجية!