إيران النووية.. والشراكة الصعبة مع روسيا والصين (2)    

عَرِفَ المشروع النووي الإيراني تحوّلات أساسية منذ سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979، ونجحت إيران الجمهورية القادمة من تجربة ثورية حديثة، في أن تُطل على العالم كقوّة متقدمة علمياً وتكنولوجياً، بات في إمكانها أن تُفاخر باعتمادها على بُنية صناعية قوية وموارد إقتصادية ومالية كبيرة.

أنفقت السلطات الإيرانية الكثير من الأموال على بُنيتها التحتية النووية وذلك طوال ما يقارب عقود أربعة من الزمن، وتميّز برنامجها النووي بالمثابرة والتقدم التدريجي والإصرار على الإنجاز على الرغم من الأزمات الداخلية والخارجية، ما يدل على أن الدوافع لهذا الاستثمار النووي هي سياسية أكثر مما هي تعبيراً عن حاجة أمنية.

إلا أن الشعور السائد في الدوائر الديبلوماسية الغربية، أن إيران إذا أصبحت دولة نووية ستكون موازناً خطراً لإسرائيل، وعاملاً مخرّباً لاستقرار الشرق الأوسط كما يريده الغرب. ناهيك عن أن التزامن بين ظهور إيران القادرة على ممارسة الردع النووي، وعراق ضعيف ومفكّك تحت الوصاية الإيرانية، قد يقود إلى التحكم ببناء نظامٍ أمني إقليمي يؤدي إلى تقليص النفوذ الأميركي.

من هنا تحوّل التركيز على تقييد القدرة النووية الإيرانية ـ وهو الهدف الذي سعت إليه خطة العمل المشترك أو الاتفاق النووي المُبرم العام 2015 بين إيران والدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن زائد ألمانيا ـ إلى احتواء السياسة الإقليمية لإيران، خصوصاً بعدما تعزّزت بقيمة عسكرية مضافة تتمثل في القدرات الصاروخية الباليستية التي استفادت من خبرات كورية وصينية وروسية. وتسمح استراتيجية الحرب غير الموازية التي تتبعها إيران بنقل تكنولوجيا أو سلاح الصواريخ الدقيقة إلى جبهات المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد إسرائيل، والعمل لتأمين العمق السوري ضد اختراقات إسرائيلية متكررة بذريعة منع إيران من توسيع قواعدها العسكرية في بلاد الشام.

وثمّة تيار في التفكير السياسي الغربي، يرى أن النظرة إلى إيران بوصفها مصدر اضطراب وتهديد، ما كانت لتكون مُبرّرة لو إلتزمت إيران باتّباع سياسات إقليمية تتّسم بالاعتدال والتوازن. وترجمة ذلك أن تتفادى الاعتراض والاحتجاج على النفوذ الإمبريالي الغربي، وأن تكون متعاونة وأقل اهتماماً بمناهضة إسرائيل، وأكثر حرصاً على الحفاظ على المصالح الغربية. وعندها ستكون هذه الإيران في منأى عن محاولات التطويق والحصار ونظام العقوبات الاقتصادية والمالية، بل حتى أن امتلاكها قدرات صاروخية ونووية لن يكون مصدر قلق بقدر ما هو عليه الآن.

لا شيء حتى الآن يشير إلى أن الجمهورية الإسلامية قد تُضطر في المستقبل المنظور إلى التقوقع ضمن حالة قُطرية، بالنظر إلى أزمة فراغ القوّة العربية وغياب أي مجموعة عربية قادرة على موازنة الدينامية الإيرانية

التموضع والشرعية

في الحقيقة، لم تكن إيران الجمهورية الإسلامية في أي وقت مضطرة إلى الاختيار بين أن تكون دولة عادية مُطواعة وذات طموحات محدودة بالمحيط الجيوسياسي المباشر للصومعة الجبلية الفارسية/الأذرية، وبين طموحاتها الإقليمية التي تدفعها دفعاً نحو العراق والخليج وبلاد الشام، حيث التموضع والحضور يُعتبران جزءاً مكمّلاً لشرعية النظام المعادي لإسرائيل. ولا شيء حتى الآن يشير إلى أن الجمهورية الإسلامية قد تُضطر في المستقبل المنظور إلى التقوقع ضمن حالة قُطرية، بالنظر إلى أزمة فراغ القوّة العربية وغياب أي مجموعة عربية قادرة على موازنة الدينامية الإيرانية. ألم يُسجل التكتل الخليجي – المصري الذي يعتبره البعض محوراً إقليمياً بديلاً من العمل العربي المشترك، قصوراً في الحرب اليمنية إزاء صمود حلفاء إيران من حركة “أنصار الله” ونجاحهم في تثبيت قاعدة ارتكازٍ راسخة في صنعاء والشمال؟! بل إن الحكومة السعودية تبدو متورطة في حرب استنزاف تحاول الخروج منها، وقد بانت خطوط الافتراق مع الأميركيين والمصريين، وبرزت خطوط الصدع مع دولة الإمارات العربية، لتباين الأهداف والغايات!

أمّا على الجبهة الشامية، فقد سقط الرهان الخليجي على إطاحة حكم الرئيس بشار الأسد المدعوم من إيران وروسيا، بينما تبدو العودة العربية الخجولة إلى دمشق لموازنة الدور الإيراني، محكومة بالفيتو الأميركي على التطبيع مع النظام السوري ونقص الزخم المصري في هذا الشأن.

تبقى المفارقة أنّه صارت للحرب اليمنية “وظيفة ديبلوماسية” تسمح بفتح قنوات للاتصال والتحاور مع إيران من دون أن يتضح ما إذا كانت مُهمّة الوفد السعودي الذي استُدعي إلى فيينا تتعلّق بنقاط الخلاف في المفاوضات.

إلى جانب مشكلة المقبولية الشعبية والرسمية، لا تجد إيران شريكاً إقليمياً وازناً باستثناء تركيا وروسيا، لكن تفعيل استراتيجيتها غير الموازية في الصراع مع أميركا وإسرائيل تستدعي سياسات أكثر تعقيداً من دعم وتسليح فصائل المقاومة الفلسطينية الناشطة ضد الاحتلال الإسرائيلي، أو المقاومة الإسلامية التي يقودها حزب الله في لبنان. ومن هذه السياسات ما يتعلّق بآليات التشاور والتنسيق مع تركيا وروسيا لإدارة الأزمة السورية، فضلاً عن الإدارة المشتركة للأزمة العراقية مع الأميركيين، والاهتمام بالعامل الكردي في التركيبة الفيدرالية العراقية.

الى ذلك لا يسع السياسة الخارجية الإيرانية سوى الانخراط في السياق الدولي الجديد الذي يشهد تصعيداً أميركياً هيستيرياً ضد الصين وروسيا. ومع تقاطع رؤاها ومصالحها مع روسيا والصين، وهما الشريكان الصعبان في المواجهة الديبلوماسية في فيينا، فإن على إيران أن تتعامل بإيجابية مع اهتمام موسكو وبِكين بالحفاظ على مصالحهما المتنامية في دول الخليج العربية، ولا سيما منها السعودية والإمارات. وهنا تدخل في الحساب فوائد الطابع القارّي للجغرافيا والثقل الديموغرافي والحيوية الاجتماعية والموقع المحوري بين روسيا والصين، وكلها عوامل تؤهل إيران للدخول في شراكة استراتيجية مع الصين وروسيا، وإحلال “الخيار الشرقي” مكان مفهوم “لا شرقية ولا غربية” العائد إلى زمن الاستقطاب الثنائي والحرب الباردة.

إقرأ على موقع 180  أمريكا إلى "النموذج الإيرلندي" أم.. الحرب الأهلية؟

ويبدو أن هذه الإشكالية كانت موضع حوار داخلي في الإدارة الإيرانية إبّان انتقال السلطة التنفيذية إلى فريق الرئيس إبراهيم رئيسي قبل أشهر، وقد تعمّدت مراكز قوى في طهران، تسريب مطالعة وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف الذي شدّد على ضرورة الحفاظ على سياسة التوازن في العلاقات الدولية، كاشفاً للمرة الأولى أن الوفد الروسي حاول حتى اللحظة الأخيرة منع التوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015.

على إيران أن تتعامل بإيجابية مع اهتمام موسكو وبِكين بالحفاظ على مصالحهما المتنامية في دول الخليج العربية، ولا سيما منها السعودية والإمارات. وهنا تدخل في الحساب فوائد الطابع القارّي للجغرافيا والثقل الديموغرافي والحيوية الاجتماعية والموقع المحوري بين روسيا والصين، وكلها عوامل تؤهل إيران للدخول في شراكة استراتيجية مع الصين وروسيا

خيار “العتبة النووية”؟

إذا كان صحيحاً أن سعي إيران إلى التحكم بالتكنولوجيا النووية قد يتحوّل إلى تطوير سلاح نووي، فإن النخبة الحاكمة في طهران لم تتخذ حتى الآن قراراً قاطعاً بامتلاك القنبلة التي سبق لإسرائيل أن حصلت عليها. وهذا الواقع العملي يعني أن إيران لا تنوي الانقلاب على تسوية (5+1)، بل تريد الحفاظ على إلتزامها معاهدة حظر الانتشار النووي وعضويّتها في الوكالة الدولية للطاقة الذريّة، وذلك لفائدة التعاون النووي الذي تحتاجه، فضلاً عن الحفاظ على صورتها دولة مسؤولة تحترم القوانين والمواثيق الدولية.

قد يكون من الصعب التأكد ممّا إذا كان المشروع النووي الإيراني قد وصل فعلاً إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، أو إذا كانت هناك منشآت سرّية تعمل لرفع عملية التخصيب إلى المستوى العسكري. وليس سهلاً أيضاً معرفة ما إذا كان الفريق الإيراني المفاوض ببراعة في فيينا، مُكلّف بكسب الوقت من أجل التوصل إلى خيار “العتبة النووية” الذي يثير قلقاً شديداً لدى الإسرائيليين.

في كل الأحوال، هناك حالة استراتيجية طارئة تستدعي امتلاك سلاح الردع النووي، وهي التهديدات الإسرائيلية التي توحي بالاستعداد لتوجيه ضربة عسكرية لإيران. غير أن النتائج التي ستتمخّض عنها المفاوضات في فيينا، إلى جانب قنوات اتصال خلفية في مسقط وبغداد هي التي سوف تُقرر ما إذا كان برنامج التخصيب سيتواصل تصاعداً.

في الانتظار، كما في خلاصة النص، يتميّز المسؤولون في إيران بفهم دقيق لموازين القوى ولِما يمكن أن يُقدِموا عليه من خطوات لا تستلزم الوقوع في مغامرات غير محسوبة أو تُكبّدهم أثماناً باهظة. وهم في أي حال يرون أن ميزان القوى الإقليمية منذ العام 2004 آخذ في التحوّل بصورة متزايدة لصالحهم.

(*) راجع الجزء الأول: عندما تحضر إسرائيل.. ويغيب العرب عن فيينا 

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  سوريا بين «شياطين» المصالحة.. و«ملائكة» التقسيم!