طليع كمال حمدان09/01/2025
لم يعرف لبنان منذ ولادته على يد فرنسا مفهوم السيادة بالمعنى القاموسي الدستوريّ. فقد كان اختيار رئيس الجمهورية اللبنانية منذ وضع الدستور اللبناني في العام ١٩٢٦ شأناً خارجياً في أغلب الأحيان، حيث تثبت الوقائع التاريخية والحالية هذه اللازمة اللبنانية.
بين ١٩٢٦ – ١٩٤٣ كان اختيار الرئيس أمراً فرنسياً.. والتحول الكبير حدث في عام ١٩٤٣ بعد دخول بريطانيا على خط التأثير السياسي اللبناني ممثلة بالجنرال سبيرز عرّاباً رئاسياً واستقلالياً.. فعرف لبنان في العام ١٩٤٣ خمسة رؤساء جمهورية: الفرد نقاش الذي استقال بعد خلاف مع الجنرال كاترو ثمّ اختار الفرنسيون أيوب ثابت وبعد أزمة المرسومين (٤٩) و(٥٠) قدّم استقالته ليخلفه على الفور بترو طراد الذي قام بتنظيم الانتخابات النيابية في العام ١٩٤٣ والإشراف عليها وأسفرت عن فوز حلفاء المملكة المتحدة (انكلترا) بالأغلبية وكان أن انتخب بشارة الخوري رئيساً للجمهورية.
وبعد تعديل الدستور التي قامت به حكومة رياض الصلح الاستقلالية، اعتقلت السلطات الفرنسية الرئيس العتيد وبعض أعضاء حكومته وعيّنت فرنسا إميل إده رئيساً للجمهورية، وبذلك يكون الرئيس الخامس للجمهورية في العام ١٩٤٣.. وبعد الافراج عن المعتقلين اللبنانيين في ٢٢ تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٤٣ بضغط واضح وجلي ومؤثر مارسته بريطانيا ضدّ فرنسا، تم تثبيت بشارة الخوري رئيساً للجمهورية، ومعه بدأ عهد الاستقلال عن القرار الفرنسي لتحل محلّه وصاية إنكليزية – أميركية، ظهرت بوضوح مع الثورة البيضاء التي أدت إلى انتخاب الرئيس كميل شمعون (١٩٥٢-١٩٥٨)، ثمّ بعد أزمة أو ثورة العام ١٩٥٨، تم اختيار اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بموجب اتفاق بين كلّ من الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية مصر العربية بقيادة جمال عبد الناصر، واستمر ذلك مع الرئيس شارل الحلو (١٩٦٤-١٩٧٠) الذي جاء بعد اصرار الرئيس فؤاد شهاب على عدم الترشّح برغم الطلب الأميركي – المصري، ثمّ كانت الرئاسة لسليمان فرنجية (١٩٧٠- ١٩٧٦) بفارق صوت واحد بينه وبين الياس سركيس، وذلك بفضل الدعم الأميركي – الخليجي- السوري وارادة واضحة للحلف الثلاثي المسيحي (كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده) وتكتل الوسط (سليمان فرنجية، كامل الأسعد) وشكّلت أصعب انتخابات رئاسية، لأن القوى على الأرض كانت متقاربة.
كان للخارج هذه المرة حضوره البارز والظاهر في اختيار الرئيس أكثر من أي مرة أخرى باستثناء تجربة ١٩٨٢ مع بشير الجميل.. ما يؤكد بأنّ الوصاية الدولية على لبنان هي جزء من دينامية متأصلة في النظام السياسي اللبناني
وبعد ذلك كانت ولاية الياس سركيس (١٩٧٦- ١٩٨٢) بدعم أميركي – عربي – سوري، ثم جاء بعده بشير الجميل (١٩٨٢) بتقاطع أميركي – إسرائيلي، وبعد اغتياله تمّ انتخاب الرئيس أمين الجميل (١٩٨٢-١٩٨٨) بتزكية من الولايات المتحدة وبموافقة اسرائيلية – عربية..
ومع دخول لبنان عصر الطائف والوصاية السورية، كان رؤساء الجمهورية يتم اختيارهم بإرادة سورية وموافقة أميركية عربية ضمنية.. وحده رينيه معوّض – مع لبنان بعد الطائف – كان خياراً أميركياً – سعودياً أكثر منه سورياً وشكّل استثناءً لحظوياً بعد الطائف، ولكن اغتياله السريع، السريع جداً، أعطى لسوريا اليد الطولى في اختيار الرئيس بدعم أميركي – عربي ضمني، كما حدث مع الياس الهراوي وجزئياً مع إميل لحود، الذي شهد عهده الثاني تصدع التفاهم على لبنان بين السوريين والأميركيين والسعوديين إثر صدور القرار الدولي الرقم 1559 والحدث الزلزالي المتمثل في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فكان تأثيره مهولاً على الساحة اللبنانية.. وصولاً إالى اتفاق الدوحة في ربيع العام ٢٠٠٨ وهو الاتفاق الذي أنتج رئيساً لبنانياً بتوافق أميركي – إيراني – سوري – خليجي هو العماد ميشال سليمان، وبعد ذلك وبعد تأخر انتخاب الرئيس سنتين، جاء الخيار على الرئيس العماد ميشال عون بتزكية من إيران والولايات المتحدة.
اليوم (9 كانون الثاني/يناير 2025) وبعد ٢٦ شهراً على شغور كرسي الرئاسة الأولى وعجز اللبنانيين عن اختيار رئيس جمهورية بمعزل عن الخارج، وفي ظل لحظة أمنية وسياسية واقتصادية، محلية وإقليمية بالغة الحساسية، كان للخارج هذه المرة حضوره البارز والظاهر في اختيار الرئيس أكثر من أي مرة أخرى باستثناء تجربة ١٩٨٢ مع بشير الجميل.. ما يؤكد بأنّ الوصاية الدولية على لبنان هي جزء من دينامية متأصلة في النظام السياسي اللبناني وطبقاته السياسية المتعاقبة.
وبعد ذلك كلّه، ما يهم المواطن العادي ليس من يختار الرئيس بمقدار اهتمامهم برئيس ينجح في تثبيت الاستقرار في لبنان والقيام بإصلاحات حقيقية في الإدارة والاقتصاد، وجعل لبنان عصيّاً على العدوان الإسرائيلي وغير الاسرائيلي على أرضه وشعبه وممتلكاته.