منذ سنتينِ، عندما خرجَ ميشال عون منَ بعبْدا، اتجهتِ الأنظارُ إليكمْ لكنكمْ تمسَّكْتُم بِرزانتِكم. لم تهْوَوْا إلى مَهاوي التلهُّفِ، بالرَّغم ِمنْ كثرةِ المسترئسينَ منذ منتصفِ ولايةِ الرئيسِ السابق. وكان يُطالبُ بكم آنذاكَ عددٌ منَ القوى في لبنانَ، ويعترضُ آخرونَ. وهذه المطالبة تقاطعتْ معَ عاصمتينِ غربيتيْنِ (واشنطن وباريس) وعاصمتينِ عرَبيْتينِ (الرياض والقاهرة). وقدْ كانت كلُّها تحمِلُ ورقتـَكمْ حتى يَؤُونَ الأوانُ.. وقد آنَ.
رزانتُكمْ لفتتِ الانتباهَ. قَليلونَ جِداً في لبنان مَنْ يرْتضُونَ بهذهِ الرَّزانةِ، ولا سيَّما في المواسم الرئاسيَّة. لنا أملٌ أنْ ترْسُمُوا رُؤيةً على غِرارِ الرئيس الراحلِ فؤاد شهاب. وقد ظهرتْ مؤشِّراتُ ذلك في خِطابِ قسَمِكم، وهذا يُعزِّزُ آمالـَنا، وإنْ تكُنْ بعضُ العباراتِ القليلةِ فيه قد جنحتْ إلى إنشائيةٍ رومانسيةٍ على خلاف خطاب شهاب عند الحديثِ عن تاريخ لبنانَ، ربَّما يجري اِستـدراكـُها لاحـقاً.
أقولُ ذلك ناقداً غيرَ خائِفٍ على حريتي، فقد برهنْتُم عندما كنتُمْ قائداً للجيشِ أنَّكم لا تُريدونَ قَمعَ الحرياتِ والكتّابِ والصِحافيينَ برغم الضغوط التي مارسها عدد من السياسيين في مرحلةِ 2019 إبَّان الاحتجاجات المعيشيَّة، وبخاصَّةٍ جبران باسيل الذي لم يَفقهْ علمَ السياسةِ حتى اللحظةِ الأخيرةِ في جلسةِ التاسعِ من هذا الشهر.
فخامة الرئيس؛
اِنتخابُكم أنْهى مرحلةً قريبةً مؤلمةً، وبكمْ تبدأُ مرحلةٌ جديدةٌ لن تخلوَ منَ الصعوباتِ، ولن تخلوَ منَ التحدّياتِ. وهنا بالضبطِ ننتظرُ دورَكمْ المأمولَ الذي لا يقِلُّ أبداً عن مفهومِ إعادةِ تأسيس ِلبنان. وذلك ضمنَ بنودِ الروحيَّةِ الوطنيَّةِ اللبنانيةِ الاستقلاليَّةِ في اتفاقِ الطائفِ، ومنْ دونِ الارتباك أمام نقاطٍ فرضتْها مرحلةُ 1989، ثمَّ إعادة النظرِ في عددٍ من الاتفاقيات التي أعقبتهُ مع سوريا، فالنصوصُ شديدةُ الحساسية وربّما هي الأقدر على تشذيب ما هو في النفوس. إن العلاقة مع سوريا يجب أن تكون ندِّيَّةً ولا يعني هذا جنوحاً إلى العداء.
هل نستطيع أن نحلمَ أكثر؟ نعم ، لكنَّنا نفهمُ ظروفنا جيِّداً، لذا لا نحلمُ مثلاً بإلغاءِ الطائفيةِ السياسيةِ والوظيفيَّة الآنَ، بل نحلمُ على الأقلِّ بتفعيل مبداً إنشاءِ الهيئة الوطنية لإلغائها كي تُوضع الأمور على السكة السليمة، بالتوازي مع تحديث قوانينِ الانتخابِ
فخامة الرئيس؛
أنتم أوَّلُ رئيسٍ لبناني من الجنوب الصامد. جِئتُمْ في زمن الآليَّةِ الجديدة لتطبيق القرار 1701 بعد الاعتداءاتِ الإسرائيليّةِ الأخيرةِ التي أشرْتـُمْ إليها في خِطابِ القسَم. إنَّها مرحلةٌ خطيرةٌ تُلْقي على مَنكِبيْكُمْ عِبْءَ التطبيق المتّزن والعادل والمتوازن للـ1701، من دون أن يشعرَ أحدٌ في لبنان بأنَّه مهزومٌ أو مكسورٌ أو مهَمَّشٌ، وتحديداً جمهور المقاومة، لأنَّـه إذا انتشرت ثقـافـة الكاسر والمكسور فلن يحصد لبنان والعهد الجديد سوى الأزمات. إنَّ الوحدةَ الوطنية الحواريّة تستوعبُ الجميع.
فخامةَ الرئيس؛
إنَّها مرحلتُكمْ. ثلاثةَ عشرَ رئيساً كانُوا قبلكُمْ. لا تستطيعون الإفادةَ من تجاربِ أحدٍ منهم في بناء الدولة سوى نظيفِ الكفِّ عزيزِ النفسِ الرئيسِ الراحلِ فؤاد شهاب. هناك حالةُ شبهٍ بينكما. منذ 66 عاماً برزَتْ توازناتٌ عربية – غربية (الولايات المتحدة/ مصر جمال عبد الناصر/ فرنسا) فأنتجتْ قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب رئيساً عام 1958. اليوم توازنات مختلفة (واشنطن – باريس – الرياض – القاهرة) أنتجتِ الرئيسَ الرابع الآتي من قيادة الجيش (بعد إميل لحود وميشال سليمان وميشال عون). لكنْ، هي توازُناتٌ في كلِّ حالٍ، تمنحُكم فرصةً ذهبيةً من التقاطع المحلّي – العربي – الدولي يُمكنُ استثمارُها لمصلحة لبنان – الدولة، ولبنان – الوطن. باستطاعتِكم أنْ تكونوا فخامةَ الرئيس ذلك الجنرالَ الأميرَ لا غيرَهُ، وكفى الله بذلك نظافةً ومجداً. لقد رسمَ رؤيةً، ووضعَ برنامجاً، واستعان ببعثة إيرفد، وتبنَّى فكرة المؤسسات لا الأشخاص، وطهَّر الإدارةَ والقضاءَ بقدرِ ما اِستطاع، وتصدَّى لِمَنْ شاكَسَه من التقليديين والإقطاعيين المُترَسْملينَ الذين خافوا من مجرَّد فكرة الدولة، لكنَّه في النهاية زرعَ فكرةَ التطهيرِ الإداري. وأثْبتَ أنَّ الانتقالَ منَ السلطةِ إلى الدولةِ ليس مُستحيلاً إذا أراد رأسُ الهرمِ أو الجنرالُ المفكرُ والأمير.
الجنرال – الأمير الذي أصابتْهُ – (برغمَ محاسنِهِ) – الانتقاداتُ بشأنِ “الشعبةِ الثانيةِ”، كان يحلم بأن تبقى المؤسساتُ بعدَهُ، لكنَّ كلَّ القُوى المحليّةَ الانتهازيَّةَ دمَّرتْها لاحقاً. وهي ما تستحقُّ إعادة البناء والتطوير ليسلكَ لبنان واللبنانيون طريق الدولة.
فخامة الرئيس؛
إنَّنا نريد إنقاذ بلدنا. هل نستطيع أن نحلمَ أكثر؟ نعم ، لكنَّنا نفهمُ ظروفنا جيِّداً، لذا لا نحلمُ مثلاً بإلغاءِ الطائفيةِ السياسيةِ والوظيفيَّة الآنَ، بل نحلمُ على الأقلِّ بتفعيل مبداً إنشاءِ الهيئة الوطنية لإلغائها [مُقرّرة في وثيقة الوفاق الوطني التي هي جزءٌ منَ الدستور] كي تُوضع الأمور على السكة السليمة، بالتوازي مع تحديث قوانينِ الانتخابِ إذْ من المُعيبِ استمرار ما يُسمى “القانون الأرثوذكسي”.
فخامة الرئيس؛
قلْ مرَّةً واحدة: “أنا الدولة” ولن نتهمك أبداً بأنَّك لويس الرابع عشر الثاني. إننا نريد بلدنا. نأمُلُ أن تكون “الجنرال المفكِّر الأمير” لا غيره. إنَّها الفرصة المصيرية. وفَّقكم الله.