أرى مجانبة هذا المطلب الصواب والدقة من أكثر من ناحية:
من ناحية أولى، بمجرد أن تُشكّل حكومة، وأياً كان أعضاؤها، تكون سياسية، لا بل لا تكون السياسة الا بحكومة، فهي، أي السياسة، محور السلطة السياسية في أي بلد، وعبر الإمساك بها يكون الصراع بين الأحزاب والمنظمات والقوى كافة.
ومن ناحية ثانية، ومجاراة لقصد المطالبين بحكومة تكنوقراط أن يكون أعضاؤها غير سياسين أو غير حزبيين، فهذا قصد يشوبه عدد من المغالطات:
المغالطة الأولى؛ لا وجود لشخص في العالم دون ميول سياسية، حتى الرافض للسياسة هو برفضه يحمل ميلاً سياسياً، ويحضرني، في هذا الإطار، رواية “اللامنتمي” لكولن ولسن، الصادرة في ستينيات القرن الماضي، وكنا نتبارى في قراءتها.
المغالطة الثانية؛ إنّ مشاركة أي شخص في الحكومة، أياً كانت درجة سياسيته، يُصبح سياسياً؛ ذلك أنّه يتعاطى، تقريراً وتنفيذاً، مع أعلى موقع في السياسة في البلد. ويُصبح عديم النفع إذا لم يفعل ذلك؛ إذ يحيل الموقع إلى التخبط أو يُسلّمه لإدارة قوى أخرى (القوى المشكو منها أو الأجهزة).
المغالطة الثالثة؛ إن أي حكومة تنتجها قوى فاعلة في المجتمع، لا نوايا وأمنيات، فهل هناك قوى تدعم خيار ما ابتغاه المطالبون بحكومة “تكنوقراط”؛ لا أظن – حساب متابعتي – أن هناك وجوداً فاعلاً لهذه القوى، فالقوى اليسارية والقومية والديموقراطية مجهضة والهيئات التي نشأت في حراك تشرين 2019 منكفئة، إن لم تكن تحلّلت، ومن بقي منها موهوم باستمرارها وبأنه “البديل”، ومن بقي من المطالبين شخصيات ذات حضور أكاديمي وسياسي سابق، بالإضافة إلى الدول الغربية التي تطالب بها لمآرب ومصالح مشكوك بها.
هل يعني هذا القول التسليم بعودة التركيبة السابقة؟
بالتأكيد، كلا؛ لكنه يعني أيضاً وجوب الخروج من الأوهام، فالحكومة الممكنة لا يُمكن أن تخرج عن إحكام سيطرة أخطبوط القوى المُمسكة بخناق البلد منذ أكثر من 40 سنة إلا بخيارين أو بهما معاً:
- اشتراط الالتزام بالدستور والقوانين في عمل الحكومة، وبخاصة في إدارة الوزراء لوزاراتهم، وتفعيل القصاء وتكريس استقلاليته وإدارات المحاسبة والرقابة الأخرى، وأن يعمل من يُعوّل عليهما الاشراف على التنفيذ، الرئيسان جوزاف عون ونوّاف سلام، على تنفيذ الالتزام هذا.
- أن يُقدم الرئيسان بوهج التجاوب الشعبي، من جهة، وبما تحت إمرتهما من أجهزة الدولة، وهي ذات وزن، من جهة ثانية، وبالدعم الخارجي المعلن لغايات قد لا تتناغم مع ما ينشدان، من جهة ثالثة، إلى فرض أمر واقع بتشكيل حكومة، ولو مصغرة، على شاكلة حكومة الرئيس فؤاد شهاب الرباعية، وفي هذه مخاطرة تستحق المجازفة.