

كان لهذا الامتحان مكانته الأدبية الرفيعة وأهميته التعليمية إذ كان لبعض الناس وبخاصة في معظم المدن عواصم المحافظات الريفية أو النائية بمثابة الترخيص للشاب حتى يتقدم لشغل وظائف حكومية وحمل لقب أو صفة “الأفندي”.
***
وجدتُ صورة البطاقة بين صور غير قليلة ظهرت فيها منفرداً أو مع العائلة أو أصحاب الحي والمدرسة. هالني في البطاقة ما عكسته الصورة من براءة خجولة بدت على وجه صاحبها، أو لعلها المناسبة التي كانت تؤذن بنهاية مرحلة اختلطت فيها نهايات الطفولة بطلائع المراهقة. أظن أن دلائل غير قليلة في واقع الحال، أي في خارج الصورة، كانت تشير إلى أن النهايات رفضت أن تستسلم لمصيرها وأن الطلائع تأخرت في فرض نفسها.
***
كنا في المصيف، كعادة العائلة في صيف كل عام. لم يختلف الأمر في هذا الصيف عن الصيف الأسبق حينما خرج أبي وأخي الأكبر بحثاً عن الصبي بائع الصحف المنادي على ملحق جريدة “البلاغ” التي تعوّدت نشر نتيجة الامتحانين الأهم، وهما شهادة “الثقافة” وشهادة “التوجيهية”، وكان امتحان شهادة “الثقافة” تجريه الدولة لطلاب السنة الرابعة الثانوية لاختبار قدراتهم استعداداً للتخصص وترخيصاً لهم بالعمل في وظائف حكومية معينة.
***
اجتمعت العائلة للاحتفال بنجاحي فور اطلاعنا على النتيجة في ملحق “البلاغ”. حضر الاجتماع أخي وكان وقتها ضابطاً بحرياً ملحقاً باليخت الملكي (“المحروسة”) ومسئولا عن حسابات اليخت. حضرته أيضاً أمي وأختي وزوجها وكان وقتها أستاذاً لمادة الجغرافيا الاقتصادية بكلية التجارة بالجامعة؛ جامعة فؤاد الأول بالجيزة. رشحتُ نفسي في مجلس العائلة للتقدم بطلب الالتحاق بالكلية البحرية التي تُخرّج قباطنة للسفن التجارية. وافق أخي ووافق أبي الذي لم يتعود أن يرفض لي طلباً. مرة أخرى أكشف عن ميلي المتجدد والصريح للسفر، ومرة أخرى تستخدم أمي حقها في النقض: “إبني ما يسافرش بعيد عني، كفاية إن بنتي عاشت سنين في بغداد”. وبالفعل استقر الرأي على الالتحاق بكلية التجارة لدراسة العلوم السياسية، تفضيلي الثاني وعيني على العمل بوزارة الخارجية المصرية.
***
قضيت زمناً محتفظاً ببطاقة هوية امتحان “التوجيهية” مطمئناً إلى أنني أحمل ما يثبت رسمياً أنني تجاوزت مرحلة ودخلت مرحلة مختلفة. ظلّت البطاقة تذكرني بأيام كنت أظن أنها من أحلى أيام العمر. حتى شهور المذاكرة المكثفة الممهدة للامتحان كان لها مذاق محبب. كنت أسهر ومعي كتابي أو كراستي في بلكونة تطل على بلكونات عديدة كلها مضاءة بالليل وكلنا “كتلامذة شهادة أو غيرها” نعتقد أن هذا النوع من التضامن يشجعنا على السهر والتحصيل.
الآن أنا متأكد أن هذا السهر كان وراء تمتين العلاقة بيننا وبين أمهاتنا. أمي كانت تقضي ليالي المذاكرة وحتى نسقط إعياء وهي تعد لنا أكواب الشاي وغيره من المنبهات وأنواعاً شتى من المأكولات الخفيفة. كثيراً ما كانت تفاجئني بطلب إغلاق “الشيش” بحجة منع دخول الحشرات الطائرة وفي الحقيقة كان وراء طلبها الحذر الدائم تجاه ابنة الجيران التي كانت “تذاكر” دائما في بلكونة شقتها المطلة على بلكونتنا وتتبادل معي التشجيع بالإشارة في وقت لم يكن التليفون يبيت خارج غرف نوم الآباء والأمهات.
***
كانت أيام امتحان “التوجيهية” مختلفة عن أيام امتحانات النقل العادية. كنا في الأيام العادية نُخصّص منها ليلة لا تتغير للذهاب جماعة، أقصد شباب الحي، إلى السينما الصيفية. نذهب أحياناً صبياناً وبنات في صحبة أمهاتنا. هناك نقضي ساعات ممتدة، فمثلاً في شهر رمضان نكون في السينما بعد الانتهاء من تناول الإفطار حتى قبل السحور بقليل. وفي غير شهور المذاكرة المكثفة كان مقرراً أن يُخصّص يوم الجمعة لزيارة بعض الأهل من كبار تجار سيدنا الحسين إن اصطحبني الوالد أو زيارة البيت الكبير في شارع مرجوش، أقصد أمير الجيوش بالجمالية، إن اصطحبتني أمي.
***
أذكر بكل السرور ظروف تنشئتي السياسية. أذكر تدريبنا في المدرسة الابتدائية ابتداء من شهر كانون الأول/ديسمبر على إلقاء الأناشيد الوطنية منها أناشيد متخصصة في حب الملك. نتدرب كمجموعة مختارة ساعة قبل بدء طابور المدرسة ثم بوتيرة مكثفة مع اقتراب شهر شباط/فبراير حين يقع عيد ميلاد جلالته ومرة أخرى مع شهر أيار/مايو حين يحل عيد جلوسه على عرش مصر. من ناحية أخرى، لم يُقصّر الوالد. كان معتزاً، بل شديد الاعتزاز بأنه كان شاهداً على بعض أحداث ثورة 1919 وفخوراً بصداقاته بسياسيين مشهورين. كان فخوراً في الوقت نفسه بصفات أو بأنواع من السلوكيات الاجتماعية اتصفتُ بها أو التزمتُها في المظهر وربما في الجوهر وإن لم أمارسُها لمجرد إرضائه ولكن لإعجابي بها وأنا أرى وأراقب التزامه بمثلها.
***
كانت الخديوي إسماعيل أكثر من مجرد مدرسة. كانت صرحاً لتعليم فنون الخطابة والمسرح والقيادة فضلاً عن أن وجودي فيها كان في مرحلة سياسية شديدة التأثير والتفاعل.
حفلت المدرسة بطلاب في السنوات النهائية تخصّصوا في ممارسة الإثارة وإشعال فتيل المظاهرات. أذكر أنهم كانوا يتدربون بين الحصص وفي حضورنا نحن تلاميذ السنوات الدراسية المبكرة. كنا ننبهر ونمشي وراءهم ونستجيب لأول إشارة تدعونا للخروج من فصولنا معبأين بالحماسة اللازمة والأصوات “المسرسعة” المدربة على اختراق جدران الفصول لتجتمع جماهير التلاميذ تطالب بفتح باب المدرسة للخروج إلى الشارع.
كانت دوافع ومحركات التظاهر دائماً متوفرة. كان الإنجليز ما يزالون في معسكرات قصر النيل قبل أن ينتقلوا إلى معسكراتهم في فايد وغيرها من معسكرات القناة. كان الفساد السياسي حديث كل الناس وعجز الأحزاب واضح وضوح الشمس. كانت قوات الأمن تستعمل في التعامل مع التلاميذ أساليب قمعية عنيفة، علماً بأن الغالبية العظمى من هؤلاء التلاميذ كانوا دون العشرين من العمر. كنا فخورين بأن مدرستنا تصنف أمنياً ضمن فئة المدارس الأكثر ثورية والأقوى تنظيماً وكفاءة في التحشيد، أقصد فئة السعيدية والإبراهيمية والتوفيقية والخديوية.
***
أظن أنني خرجتُ من المرحلة الثانوية جاهز التكوين سياسياً بفضل حكايات أب مسيّس بطريقة بورجوازية العصر، وحيوية مجتمع يتحول متأثراً بمتغيرات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وطبيعة مدرسة ثانوية “ملكية النشأة” راديكالية المشوار، وقدرات مدرسين اثنين أحدهما مصري درس لي التاريخ حسب عقيدته السياسية والثاني مدرس مغربي مطرود من بلاده لسبب سياسي.
***
وضعت الهوية جانباً إذ لمحت بطرف عيني صورة بين الصور الأقدم تاريخاً أثارت على الفور رغبة مشددة في الإمساك بها وقراءة ما تقول.