نظام عالمي ثنائي القطبية.. بعد الحرب العالمية الثانية (9)

انتهت الحرب العالمية الثانية فى أغسطس/آب ١٩٤٥ بعد أن سحقت الولايات المتحدة الجيش الإمبراطورى اليابانى بتدمير طوكيو ثم إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكى لتستسلم اليابان. قبل ذلك بقليل انهزمت ألمانيا وإيطاليا، ثم كان انتحار هتلر وقتل موسيلينى.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، سريعا ما شكل الحلفاء مراكز عسكرية وسياسية لقيادة عمليات ما بعد انتهاء الحرب فى الدول المنهزمة. فتشكلت مراكز قيادة للحلفاء فى كل من النمسا وألمانيا واليابان. كانت أبرز ملامح مرحلة ما بعد انتهاء الحرب هو ذلك الدمار الشامل فى البنية التحتية وكذلك الخسائر الفادحة فى الأرواح، فتقدر الإحصاءات أن بين ٦٠ و٧٠ مليون شخص لقوا حتفهم أثناء الحرب منهم ما يقرب من ٥٠ مليون مدنى والباقى من العسكريين!
وبرغم أن الخسائر قد طالت الجميع إلا أن جماعات عرقية ودينية بعينها كانت على موعد مع الإبادة الجماعية، ومن هذه الجماعات اليهود الذين لقى منهم ٦ ملايين حتفهم على يد النازى وكذلك الغجر والسلاف والمسلمين بالإضافة إلى جماعات أخرى تم استهدافها بعينها مثل أصحاب الإعاقات الذهنية والحركية وكذلك المثليين.

***

أمام هذا الدمار الشامل عمد الحلفاء إلى إنشاء الأمم المتحدة فى ١٩٤٥ كى تخلف العصبة التى فشلت فى حل الصراعات الدولية، وقد ارتبط إنشاء الأمم المتحدة بالإعلان العالمى لحقوق الإنسان الذى شكل أول وثيقة دولية لإقرار الحقوق الأساسية للبشر، فضلا عن إنشاء مجلس الأمن الذى خلف المجلس التنفيذى لعصبة الأمم، وحصل الحلفاء المنتصرون ــ بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتى والصين والولايات المتحدة ــ على المقاعد الخمس الدائمة فى المجلس بالإضافة إلى حق النقض (الفيتو) وهو النظام والعضوية التى ما زالت قائمة حتى وقتنا هذا!.
فى أوروبا كانت السياسات الأبرز لمحاولة تسوية الأوضاع بعد دمار الحرب هى تشكيل محاكمات نورنبمرج لمحاكمة المتورطين مع النازية وقياداتها، وعمل برنامج لاجتثاث النازية من أوروبا، وكذلك كانت سياسة إعادة الإعمار من خلال مشروع مارشال الذى نفذته الولايات المتحدة وكان يسعى إلى تحقيق الاستقرار فى أوروبا عبر إعادة إعمار البنية التحتية وربط الاقتصاديات الأوروبية بالنظام الرأسمالى الأمريكى، وهو الأمر الذى أدى إلى تحقيق قفزات اقتصادية فى إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبشكل أقل فى إنجلترا.
كان مشروع مارشال هو أحد مؤشرات الإدراك المبكر لساسة الولايات المتحدة لبوادر الحرب الباردة التى شكلت العنوان الأبرز للسياسة العالمية للأربعين سنة التالية. فقد كان أحد أهداف الولايات المتحدة وقف انتشار الشيوعية، فالاتحاد السوفييتى الذى كان فى نفس التحالف مع الولايات المتحدة سرعان ما بدأ فى تحديد مناطق نفوذه فى أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، فقد سيطر السوفييت على ألمانيا الشرقية ومعها عدد كبير من باقى دول أوروبا الشرقية والبلقان ولاسيما بولندا، ورومانيا، والمجر، وألبانيا. كذلك ففى آسيا سيطر الاتحاد السوفييتى على جنوب سخالين وجرز الكوريل (كان مسيطرا عليها من اليابان قبل انتهاء الحرب الثانية)، وفى المقابل، سيطرت الولايات المتحدة على اليابان. أما فى كوريا فقد كان الوضع معقدا لسنوات وخاصة بعد تمركز القوات السوفييتية فى شمال شبه الجزيرة الكورية، مقابل تمركز القوات الأمريكية فى جنوب شبه الجزيرة وكل من الدولتين قامتا بتأييد عدد من الحكومات المتعاقبة فى الشمال والجنوب، وهو ما أدى فى النهاية إلى اندلاع الحرب الكورية والتى استمرت لمدة ثلاث سنوات (١٩٥٠ ــ ١٩٥٣)، وانتهت بتقسيم شبه الجزيرة إلى كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية وهو أيضا الوضع الذى ما زال قائما حتى اللحظة!.

***

فى اليابان ساعدت الولايات المتحدة على تنفيذ خطة اقتصادية تشبه مشروع مارشال فى أوروبا، ولكن مع المزيد من التدخلات السياسية ولعل أبرزها كتابة الدستور اليابانى الذى أنهى حق اليابان فى إعلان الحروب وفى امتلاك جيش هجومى وكذلك أنهى كل السلطات التنفيذية الممنوحة للإمبراطور والإبقاء عليه كرمز للبلاد وهى أيضا الأوضاع المستمرة حتى وقتنا هذا!.

كانت النتائج المباشرة لانتهاء الحرب العالمية الثانية هى تشكيل تنظيم دولى جديد يطمح إلى تطبيق قواعد القانون الدولى على كل دول العالم الذى انقسم بدوره إلى كتلتين رئيسيتين، الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة وعبر عنها حلف الناتو والكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتى والتى بدورها قامت بتشكيل حلف وارسو

أما فى الصين، فقد انتهت الحرب الأهلية الصينية بين القوميين والشيوعيين بانتصار الأخيرين، فقامت حكومة شيوعية فى الصين تحت اسم جمهورية الصين الشعبية، فيما فر القوميون إلى جزيرة تايوان ليعلنوا قيام الجمهورية الصينية والتى تمكنت من الحصول على المقعد الدائم الخاص بالصين فى الأمم المتحدة حتى عام ١٩٧١ حينما تم نقل المقعد إلى جمهورية الصين الشعبية.
أما فى الشرق الأوسط فقد اصطدمت الدول العربية، والتى كانت قد أنشأت جامعة الدول العربية كأول تنظيم إقليمى لها قبل إنشاء الأمم المتحدة بشهور قليلة، بقرار الجمعية العامة بتقسيم الأراضى الفلسطينية إلى دولة عربية وأخرى يهودية ومن بعدها إعلان قيام الدولة الإسرائيلية وسط تأييد غربى لها!.

إقرأ على موقع 180  البحر الأحمر.. من النبي موسى إلى أصحاب الأخدود (2) 

***

بعبارة أخرى، فقد كانت النتائج المباشرة لانتهاء الحرب العالمية الثانية هى تشكيل تنظيم دولى جديد يطمح إلى تطبيق قواعد القانون الدولى على كل دول العالم الذى انقسم بدوره إلى كتلتين رئيسيتين، الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة وعبر عنها حلف الناتو العسكرى (١٩٤٩ – حتى الآن) والكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتى والتى بدورها قامت بتشكيل حلف وارسو (١٩٥٥ ــ ١٩٩١).
كذلك فقد كانت واحدة من أهم الظواهر السياسية فى تلك الحقبة هى حصول عدد كبير من الدول على استقلالها بعد أن ظلت لعقود بلا سيادة تحت قيادة الاستعمار، وهو ما شكل استعادة الروح القومية للعديد من الشعوب المحتلة، فضلا عن تكوين هويات وطنية جديدة لبعض الدول التى لم تظهر ككيانات سياسية مستقلة سوى فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كذلك فلم تنهِ الحرب العالمية الثانية الصراعات المسلحة كما كان متوقعا، ولكن دخلت معظم دول العالم فى سياقات للتسلح لأسباب مختلفة، أهمها التطور التكنولوجى الكبير الذى شهدته الصناعات العسكرية فى تلك الفترة وكذلك ظهور القادة القوميين من المؤسسات العسكرية للغالبية العظمى من الدول التى كافحت ضد الاستعمار، هذا فضلا عن ديناميات الحرب الباردة والتى وإن كانت لم تقد إلى حرب عالمية ثالثة، إلا أنها قد شهدت العديد من الحروب بالوكالة عن القطبين القائدين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى).
هنا انقسمت مدرستان كبيرتان فى العلاقات الدولية فى وصف وتحليل تطورات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث رأت المدرسة الليبرالية / المثالية أن العالم يشهد نظام حوكمة دوليا يسوده القانون الدولى وتحكمه الأمم المتحدة بقواعد مكتوبة وتفصل فيه المحاكم الدولية، ومن ثم فإن هذا العالم يشهد تعاونا غير مسبوق فى شتى المجالات سيجعل من قيام حرب ثالثة أمرا غير متوقع وسيحقق الرخاء للعديد من شعوب العالم، فيما تحدتها مدرسة فكرية أخرى عرفت باسم الواقعية كانت ترى أن العالم بعد الحرب الثانية لا تسوده قواعد ولا قوانين دولية إلا فقط لتعبر عن مصالح الدول الأكثر قوة، وأن المزيد من الصراعات المسلحة من المنتظر أن تسود العلاقات الدولية فى تلك الفترة!.
فى المقالات القادمة نناقش المزيد من التفاصيل بخصوص هاتين المدرستين الفكريتين فى ضوء تناول أهم التطورات الدولية والإقليمية فى تلك الفترة.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الصراع على تايوان.. اليابان تتسلح والصين تتحوّل