بين زيارة البابا وتهديد برّاك.. هل تنكسر الهدنة اللبنانية الهشة؟

على مدى يومين من زيارة البابا لاوون الرابع عشر التاريخية إلى لبنان، هلّلَ الجنوبيون لاستراحة ماكينة القتل الإسرائيلية التي لم ترحمهم منذ تاريخ وقف إطلاق النار قبل حوالي السنة، حتى تجاوز عدّاد الشهداء الـ335 شهيداً، أي بمعدل شهيد يومياً، ناهيك بنحو ألف جريح وعشرات الآلاف من النازحين عن قراهم، لكن ما كسر فرحتهم هو الوعيد والتهديد الأميركي-الإسرائيلي بأيام قتالية صعبة آتية فور مغادرة رئيس الكنيسة الكاثوليكية في العالم الأراضي اللبنانية.
كان يفترض باللبنانيين أن ينشغلوا بترتيبات استقبال ضيفهم التاريخي الذي جاء للمشاركة في بلسمة جراحهم وتعزيز آمالهم بعنوان “طوبى لفاعلي السلام”، لكن اغتيال القيادي الكبير في حزب الله هيثم الطبطبائي، عشية عيد الاستقلال، بدا كأنه رسالة مباشرة موجهة للضيف الزائر: لبنان، وبرغم مظاهر الهدوء الهش، ما يزال ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، وهذه الزيارة البابوية لن تكون كافية لتجميد قواعد الاشتباك أو تهدئة العاصفة الإقليمية التي تتقد تحت الرماد.
وها هي بعض القنوات التلفزيونية العربية تنقل عن سفير الولايات المتحدة في تركيا ومبعوث الرئيس الأميركي إلى سوريا توم برّاك بأن الحرب الإسرائيلية ضد لبنان ستتجدد وأنه طلب من حلفاء الحزب في بغداد أن يقفوا على الحياد تحت طائلة أن يتحملوا أكلاف أي انخراط في الحرب إلى جانب المقاومة في لبنان.
من الواضح أن العملية التي نفّذتها إسرائيل في عمق الضاحية الجنوبية لم تُقرأ كتصفية أمنية موضعية لشخصية محورية في حزب الله، بل هي حلقة مستمرة في مسار واحد: إعادة تفكيك البنية القيادية للحزب، بعد أن روّجت الصحافة الإسرائيلية طويلاً لاستعادة الحزب قدراته العسكرية والأمنية بوتيرة أعلى مما كانت تتوقع تل أبيب. وبذلك بدا الاغتيال أقرب إلى تدشين مرحلة جديدة، تأخذ لبنان خارج حدود الهدنة المرهقة وتضعه أمام اختبار مفتوح على مستويات عدة.
فالضاحية الجنوبية ليست مجرد منطقة نفوذ لحزب الله، بل جزء من منظومته الأمنية الأكثر حساسية. واستهداف شخصية بوزن الطبطبائي فيها لا يعني استهداف قائد ميداني فقط، بل محاولة لفرض واقع سياسي-أمني جديد، ترى فيه إسرائيل نفسها الطرف الوحيد القادر على تعديل موازين القوى، خصوصاً بعدما اعتبرت أن الدولة اللبنانية عاجزة عن الإمساك بزمام المبادرة، وأن الجيش اللبناني، برغم محاولاته، إلا أنه محكوم بسياق داخلي لا يسمح له بالدخول في صدام مباشر مع الحزب.
تزامنت العملية مع نجاح اللوبيات الإسرائيلية في إلغاء زيارة قائد الجيش رودولف هيكل إلى واشنطن، وتدشين السفير الأميركي الجديد في لبنان ميشال عيسى مهمته بمقابلة مع صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية قال فيها إن إسرائيل لا تحتاج إلى إذن من بلاده لاستهداف لبنان، وأعطى موقفه هذا انطباعاً واسعاً بأن واشنطن رفعت يدها عن لبنان وفوّضت إسرائيل بالكامل بـ”استكمال تنفيذ المهمة”. وثمة من قرأ الاغتيال كرسالة مزدوجة: رسالة إلى الحزب لمنعه من إعادة ترميم قدراته ورسالة إلى الدولة مفادها أن تطبيق القرار 1701 لن ينتظر طويلاً، وأن إسرائيل مستعدة لفرضه بالقوة إذا لم تُنفِّذ بيروت التزاماتها الواردة في قرار الحكومة اللبنانية بتاريخ الخامس والسابع من آب/أغسطس 2025..
وإذا كان حزب الله قد اعتمد سياسة “الصبر الاستراتيجي” خلال السنة الماضية، متجاهلاً الاغتيالات المتفرقة والضربات التي تستهدف مراكزه من دون أي رد مباشر منه، مراعاةً للواقعين الداخلي والاقليمي، ومنحاً للدولة فرصة لإثبات قدرتها على حماية اللبنانيين. لكن اغتيال الطبطبائي يضع الحزب أمام لحظة فاصلة: فالصمت يعني قبولاً ضمنياً بقواعد جديدة تعمل إسرائيل على تثبيتها، فيما الرد قد يجرّ البلاد إلى مواجهة واسعة، في وقت لا يحتمل فيه لبنان أي اهتزاز إضافي. ومع ذلك، وبحسب أدبيات الحزب، فإن أي محاولة للمسّ بهرم القيادة أو بقدراته العسكرية تُعامل كتهديد وجودي، لا كاستفزاز تكتيكي، ما يجعل احتمالات الرد قائمة طبعاً بالتوقيت الذي يراه الحزب مناسباً وليس بالتوقيت الذي يختاره الإسرائيلي.
في المقابل، تجد الدولة اللبنانية نفسها أمام هامش حركة ضيق. فزيارة البابا لاوون الرابع عشر التي كان يُفترض أن تكون محطة لاستعادة الثقة الداخلية والدولية وتضع لبنان على خارطة الاهتمام الدولي، إلا أنها تتقاطع مع واقع سياسي لبناني يزداد تشظياً بسبب الخلاف على قضايا كثيرة أبرزها قضية حصرية السلاج ومن يحمي لبنان واللبنانيين وموقع لبنان الإقليمي.
ترتسم فوق كل ذلك مشاهد إقليمية أشد تعقيداً، وليس مستبعداً أن تندفع إسرائيل نحو جولة جديدة في غزة بعد أن نفذت سلسلة اغتيالات متتالية لقياديين في “كتائب القسّام” وأن تستهدف العمق السوري كما فعلت في بيت جن مؤخراً وأن تزيد وتيرة عدوانها لبنانياً، في إطار استعداداتها المستمرة للموقعة الكبرى مع إيران. وفي المقابل، تشير التقديرات إلى أن إيران استعادت جزءًا كبيراً من ترسانتها الصاروخية، وتستعد لرد واسع إن فُرضت الحرب عليها، ما يدفع تل أبيب إلى إعادة تقييم قدرتها على خوض أكثر من جبهة بالتوازي.
قد لا تحمل الأيام المقبلة للبنانيين أجوبة حاسمة على قلقهم الوطني المفتوح لكنها بالتأكيد ستحمل مؤشرات ما إذا كان لبنان مقبلاً على إعادة رسم قواعد اللعبة، أم على مرحلة أكثر خطورة تتجاوز ما شهده منذ بداية الهدنة الهشة قبل حوالي السنة.
زيارة البابا لاوون الرابع عشر قد تكون فرصة لالتقاط الأنفاس، لكن ظلّ الاغتيالات والتهديدات الإسرائيلية يبقى ثقيلاً، ويُذكّر الجميع بأن لبنان يعيش على خط تماس دقيق، حيث الكلمة الفصل لا تُقال في العلن، بل في الغرف المغلقة وميزان القوة على الأرض.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "السيد محسن" الذي نقل جغرافية الميدان
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  تعمّدتْ بالدم.. إلى روح المطران كبوجي