

باختصار، سنُقدّم مادة من عالم ما بعد الحداثة وما بعد ما بعد الحداثة، وبالتالي ستكون أدوات المعرفية مختلفة نسبياً عما تم الاعتماد عليه لسنين طويلة، وعلى ما إئتلفناه!
يُمكن القول إن ما يتبعه ترامب؛ هو بمجاز القول (اللا منهجية)؛ فهو يقوم بعرض أفكار تبدو (في مستوى) أكثر من خارج الصندوق؛ فأحياناً تبدو تلك الأفكار مستحيلة أو مجنونة، لكنها مقصودة ولا يهم إن نُفذت أو لم تنفذ. فهدفها هو تحريك المياه الراكدة في أحسن الأحوال أو “زعزعة البنيان السائد” في أسوأ الأحوال! لخلق فرصة! وأحياناً كثيرة لا تكون تصورات مسبقة لديه عن تلك الفرصة؛ إنما يتركها تأتي في السياق!
هدف الأفكار الدولية تحديداً – إن وجد هذا الهدف أصلاً – والتي سرعان ما يتم رميها في وجه الحلفاء قبل الأعداء، ليس تنفيذها، كلها بالضرورة، إنما البناء عليها أو على المفاوضات حولها، للوصول إلى أفكار جديدة ووقائع جديدة ربما لا تمت بصلة إلى الأفكار (المجنونة ظاهريًا) التي طرحها في البداية.
إنه يعتقد -على الأغلب- بأن طرح الأفكار شبه المستحيلة، يخلق مناخًا حواريًا يفسح في المجال إمام أفكار واقعية لاحقاً، ولكن في أعلى مستوى يقارب مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية من منظوره.
ثمة ملاحظة أن العالم سينقسم إلى قسمين: قسم يعمل بالمنظومة القديمة (By book) وقسم يعمل باللا منهجية واللامنظومة ورباعيّة (سرعة التبادل وعدم اليقين والتشابك المتعقد والالتباس) التي يعتمدها تيار صاعد في العمل السياسي ليس ترامب الا أحد تجلياته
ولهذا فإن طريقة التعامل مع أفكاره لا يجب أن تكون بتبنيها تحت تأثيرات “الصدمة والرعب” اللذين يتشكلان جرّاء أمرين معاً، هما ليسا من الواقعية السياسية:
الأول؛ افتراض أن الولايات المتحدة الأمريكية تستطيع أن تفعل كل شيء وكل ما يقال من مسؤوليها. أو أنها كلية القدرة! فالمعروف في لغة السياسة الأمريكية أنها تعتمد مبدأ ثنائية: الضغط/الاستجابة أو المقاومة، وبالتالي فهي لا تفترض سلفاً أن الضغط سيعني الاستجابة بالضرورة. وهذه القاعدة معمول فيها في وزارة الخارجية والبنتاغون ووكالة الإستخبارات (CIA).
الثاني؛ هو الوقوع تحت التأثير النفسي الناجم عن صدمة الأفكار، وبخاصة أنها غير مألوفة. وهذا جزء من اللا منهجية.
باختصار شديد هذا نوع من التسويق والتفاوض يبتكرهما الرئيس الأمريكي بنمط (اللا منهجية). وباعتبار أن العقل البشري السياسي معتاد على المنهجية، فإنه يقع أمامها في حالة اضطراب شديد، ويُصنّفها على أنها إما مجنونة ويزدريها ولا يفهم ما هو آت منها، فيفاجأ لأن الناتج عنها هو غير ما تم التصريح به، أو يذهب البعض لأن يخضع لها ويستسلم جراء اندياح تصور بكلية القدرة لدى المسؤول الأمريكي على تنفيذها.
في كل الأحوال إن اللا منهجية هي السمة العامة لطروحات ترامب كافة. وإن محاولة تفسيرها منهجياً هي مقاربة (مفارقة) لا تنجح كثيراً في وصف هذه الحالة الجديدة، الأمر الذي يُحيلنا إلى مفهوم (الفهم).
(فهم) مذهب ترامب:
نود منذ البداية أن نميز بين الفهم والتفسير:
الفهم يرتبط بظواهر لا تخضع دائماً للسببية المنطقية كما هو الحال في التفسير، إنما ترتبط تلك الظواهر بعالم ما بعد الحداثة أو حتى ما بعد ما بعد الحداثة؛ الذي تحكمه ظاهرة رباعية هي سرعة التبدّل وعدم اليقين والتعقد المتشابك والتباس التحليل أو التباس رؤية المشهد بأكمله. ولهذا فإننا سوف نقدم مجرد (فهم)، ليس تفسيراً بالمعنى السبب لما نسميه مجازاً مذهب ترامب!
وما يجب أن ننوه إليه بخصوص الفهم؛ أنه لا يخضع لأسئلة من قبيل: لماذا؟ وكيف؟ إنما يقبل كما هو!
في التطبيق، لا في فرضيّة النظرية المتماسكة والمحددة بشكل نهائي، يقوم مذهب ترامب، الظاهري، وعلى مجاز القول بوجود مذهب، مثلاً على تخفيض إلتزامات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه أي مكان في العالم حتى ولو كان مع الحلفاء، إذا لم يكن مدفوعًا. وحتى إذا كان مدفوعًا يجب أن تكون العوائد الاقتصادية تتعزز مع البعد الاستراتيجي الاقتصادي الذي يقول بضرورة إنقاذ أمريكا اقتصاديًّا والعودة بها دولة أولى.
وهو ليس مستعداً لتضييع الوقت مع عبارات من قريب ما استخدمته “النيويورك تايمز”: بأنه “تراجع عن الالتزامات العالمية بطرقٍ من شأنها إعادة تشكيل علاقة أميركا بالعالم”. لأن هذه إعتبارات من ناحية يعتبرها ترامب أيديولوجيا، ومن ناحية أخرى يعتبرها قديمة لا تلائم العصر.
وعلى هذا الأساس، فإن المقايضة، على سبيل المثال لا الحصر، بين المعادن عالية الاهتمام عند أمريكا، في أوكرانيا، وبين دعمها الذي لا يصل إلى مرحلة دعم “الناتو” الاستراتيجي اللامحدود، لا يتسق مع ما كان يتم اعتباره من حسابات الاستراتيجية بعد الحرب العالمية الثانية. فوزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث، أعلن في اجتماع مغلق مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، للوفد الأوكراني، أن ترامب يدرس إمكانية تقليص الوجود العسكري في الدول الأوروبية. وسواء قيل هذا الكلام أم لم يُقل، كما يتم تداوله بالإعلام، وسواء تم تنفيذه أو التراجع عنه، فإن هذا التوجه أو عكسه ممكن أن يتغير في أي لحظة وفقا لقاعدة الـ(volatile). التي سنأتي عليها لاحقاً.
نحن لسنا أمام حالة محض براغماتية، نحن أمام عالم من اللا منهجية واللا ثبات، والتبدّل بسيولة. نحن أمام حالة لا تتفق ولا تنسجم ولا تتساوق مع عالم التحليلات التي كانت تريد دائماً أن تقدّم ثوابت عقلية يمكن الركون إليها.
لهذا فإن تعدد السيناريوهات، وحتى تلك التي هي من خارج التوقعات، هي الأقرب لـ(لفهم) عالم اليوم في السياسة. بمعنى أن ما يطرحه ترامب يؤول ليس إلى سيناريو واحد إنما إذا عدة سيناريوهات كل واحدة منها قابلة لأن يتم التعامل معها.
نقول؛ إن الأداة التي يمكن استخدامها هي الـ(فهم وتفهّم)، تجنباً لمفهوم (التفسير) أو التحليل السببي الذي ينطلق من السبب إلى النتيجة؛ لأن العالم لم يعد هكذا في هذه الأيام، عموماً؛ ولا في المنظور الأمريكي عند ترامب خصوصاً؛ مع ملاحظة أن الفهم لا يعني التبرير! وأنه مفهوم محدث في عالم السياسة. ولا يخضع لأحكام القيمة!
الثابت الوحيد في سياسة ترامب؛ أنها لا تخجل من التبدلات السريعة. والحقيقة أن تعبيرات (يخجل أو لا يخجل) ليست من مصطلحات عالم السياسة في شكله الجديد (ألما بعد ما بعد حداثويّ). فالتبدل السريع هو من طبيعة العصر، وهو وفقًا لهذا المنظور، وحده، الذي يمنح (الفرص الجديدة)
الحسابات التفسيرية، اليوم تخُطّط بالبعد الاقتصادي الإمبراطوري للولايات المتحدة الأمريكية التي يجب أن تنهض من كبوتها، وفق منظور ترامب، وهي ليست بحسابات توزع القوى المُكلف لمجرد تنازع نفوذ الجيوسياسي، إذ لم يعد يمتد هذا التنازع في منظور ترامب على الاقتصاد الأمريكي مباشرة، وهو المطلوب.
لكن هذا ليس نهائياً وقد يتبدل إلى عكسه أو إلى نموذج ثالث غير مألوف، مع تبدلات الوقائع.
نحن أمام تغيّر (لم يستقر في الكتب بعد)، لطبيعة الاستراتيجية في عالم ما بعد الحداثة السياسية. وهو تغير غير مألوف ينسجم مع عالم اللا يقين. ويبدو أنه لن يستقر في الكتب لأن مُحدّدات (فهمه) تقع في سيولة دائمة. بمعنى أن المتوقع لا يمكن أن يكون احتمالًا وحيداً. فنحن نتحدث عن طيف من الاحتمالات.
ولهذا فإن الحديث عن مذهب ترامب، بالمعنى الذي اعتدنا عليه، يبدو انه سيكون محاولة مخالفة لطبيعة السياسة التي ينتهجها الرجل مستنداً إلى التقلّبات الشديدة واعتبار تلك التقلبات جزءاً لا يتجزأ من طبيعة السياسة.
فهو يعتمد إلى حد كبير مصطلح (volatile) الذي يعني؛ المتطاير وسريع الزوال، والمتبخر، وسريع التأثر والتقلب، وهو ما يتفق مع ما كنا قد شرحناه سابقاً. وبالتالي فهو يخالف طبيعة السياسة التي اعتدنا عليها لقرون التي تقوم في كثير من تنظيراتها على (الرغبة) في عالم ثابت أو قليل التغير.
فالثابت الوحيد في سياسة ترامب؛ أنها لا تخجل من التبدلات السريعة. والحقيقة أن تعبيرات (يخجل أو لا يخجل) ليست من مصطلحات عالم السياسة في شكله الجديد (ألما بعد ما بعد حداثويّ). فالتبدل السريع هو من طبيعة العصر، وهو وفقًا لهذا المنظور، وحده، الذي يمنح (الفرص الجديدة)، ولهذا فإن السياسة التي كانت -سابقاً- تتبدل مواقفها مع الواقع بصورة أكثر بُطءاً، أصبحت سمتها العامة، مع السرعة الخارقة في تدفق وسيولة المعلومات، هي التبدلات السريعة ومخالفة الـ(comen sense) الحس المشترك أي مخالفة ما يتفق مع المنطق الذي تم الاعتياد عليه.
وسيكون علينا -هنا- ملاحظة أن العالم سينقسم إلى قسمين: قسم يعمل بالمنظومة القديمة (By book) وقسم يعمل باللا منهجية واللامنظومة ورباعيّة (سرعة التبادل وعدم اليقين والتشابك المتعقد والالتباس) التي يعتمدها تيار صاعد في العمل السياسي ليس ترامب الا أحد تجلياته.
وسوف تتنازع هاتان الرؤيتان بشكل جديّ ومن ثم “تتعايشان” بين شد وجذب واسترخاء. ولا يمكن الحكم منذ الآن عن أن أحدى الرؤى سوف تنتصر على الأخرى فلغة (إما.. أو) أيضًا ليست لغة للعصر!
قد يكون مخالفاً لطبيعة الأشياء أن نقدم تنظيراً لسلوك سياسي هو أبعد ما يكون عن المنهجية. لكن الوصف المقيّد، باعتبارات (الفهم السائلة، لا التفسير الصارم)، هو الذي يستطيع أن يقدّم مادة يمكن تعميمها على القراء. صحيح أنها تصرّ على أن المطلوب هو (فهم) وليس تصنيف هذا النوع من السياسات المعاصرة، وهذا النوع من (الفهم) ليس من الضروري أن يكون منهجياً مهما بدا الأمر صعباً ومشَوِشاً.
إن أهم ما يربط مذهب ترامب، بمجاز القول طبعاً مرة ثانية، بالفهم، أن كلاهما لا يخضع لاحكام القيمة؛ فكل ما يصدر عنه قابل للفهم وليس لمصطلحات من قبيل الخطأ والصح، والفضيلة والرذيلة. إنه يخضع لحكم الوجود، أي المتغيرات وسرعتها وهشاشة الواقع. وبالتالي تغيّر المواقف في نفس السرعة والهشاشة.