فلسطين تكشف “الآخر”.. إنسان محارب أم مهدور؟

يُمثّل الآخر نفسه ويُمثّلنا. هو المتسامي في عيوننا ولا يتشابه مع الآخرين، من هم مثلنا. ننسى أنه نحن، وننسى أن له مشاعر وأنه الآخر في نظرنا أصلاً لأن له مشاعر أولاً. نرى قدراته فوق الانسان العادي. أما العادي فلا نحتاج لاعترافه بنا فهو شبيهنا، مستلب مثلنا، لكن من هو الانسان العادي؟ أليس الذي يشعر ويتفاعل ببساطة فيصبح الآخر المتسامي؟ حقيقة بسيطة نستوعبها عندما يستضيف الفقير في بلادنا نازحاً عارياً من كل شيء فيعيش معه في غرفة واحدة ويقدم له فراشه الوحيد أيضاً.

من هو الآخر في بلادنا؟

هو الشاب صانع المحتوى الفلسطيني عبود بطّاح. عوّدنا أن ينجو من الموت مبتسماً. وأن يسخر من طائرات العدو بل يغنّي لها. ابتسم لنا في حضرة الموت المحيط به فأمدنا قوّة وليس العكس. إختطف عبود في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وقد اجتاحنا القلق. حاول العدو أن يهينه فأهاننا ولكنه عاد أقوى.

هو الصحفي اللبناني محمد فرحات، الذي نجا من الموت في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2024، تاريخ المجزرة المرتكبة بحق زملائه في مكان اقامتهم في بلدة إبل السقي في قضاء حاصبيا. لطالما ميّزته إطلالته المهنية أثناء تغطيته مجريات الحرب. وظل هكذا مودعا زملائه بأسف الخسارة، وقدرة تحدي العدو في الوقت نفسه. الآخر هو الصحفية اللبنانية كارمن جوخدار التي جُرحت وأنقذت بأعجوبة قرب الناقورة واستشهد رفاقها وما أن وقفت على قدميها حتى عادت إلى جنوب الجنوب.

نعود إلى تاريخ لن ينساه كثيرون، وهو 14 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولن ينساه صالح الجعفراوي. حين أحرق العدو خِيم النازحين في دير البلح في غزة. احترق الطفل وأمه وآخرون وهم أحياء أمام أعين الناجين وكان صالح بين هؤلاء الناجين غير القادرين على انقاذ أهاليهم. كلماته لن ننساها “أقسم بالله مشاهد حتضلها قاعدة هان في ذاكرتنا”. صرخته قاسية، يملأ الحريق عيونه. تتعذب روح الطفل فيه، فهو الشاهد البطل المنكسر وهو الآخر.

نعود إلى تاريخ استشهاد أفراد من عائلة الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح في 25 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023. نتذكر كيف تلقى الخبر على الهواء ولن ننسى كلمته الشهيرة “بينتقموا منّا بالأولاد” ثم يتبعها بكلمة “معلش”. ألم ينكسر هذا البطل للحظات؟ ألم نكن نستمد قوتنا منه أثناء أدائه عمله؟

نعود إلى المشهد القريب في النصف الثاني من سبتمبر/أيلول من العام 2024، عندما تم تفجير أجهزة “البيجرز”. ركض أطباء وممرضون علّهم يعيدون النور إلى عيون لبنان. حينها أجهش طبيب العيون اللبناني الياس جرادي بالبكاء على الهواء قائلاً “كنت عم شوف بكل مريض جزء من لبنان.. كل مريض كنت عم حاول رممو، كنت عم حاول رمّم شي بلبنان”.

***

على مدى شهور الحرب، تتهدم بيوت وبنايات؛ تُنسف مدن وقرى؛ تُحرق مواسم؛ تضيع ملامح الأضرحة. يرد الأهالي بكل ثبات: “رح نرجع ونعمر بيوتنا ورح تصير أحسن مما كان”. بالطبع لن يعود الشهيد إلى الحياة هنا، ولكن الأضرحة ستحييه في المستقبل فهي ذاكرة للمحب المتوعد وثورة للمستقبل.

الآخر هو المتوعد الأول لنا ولنفسه. هنا نتذكر شاعر الأرض توفيق زياد عندما قال متحداً مع أرضه مؤمناً بعودته ومتوعداً الاحتلال الذي هدم القرى في آذار/مارس 1976: “هنا باقون. كأننا عشرون مستحيل، في اللد والناصرة والجليل.. هنا لنا ماض.. وحاضر.. ومستقبل”.

حين ينطق القلب يصبح الكلام شعراً ولو بلسان طفل شريد في الحرب. تترسخ في الذاكرة القريبة كلمات نازحين أو ناشطين أو صحافيين أو أهالي شهداء.. تحفظ الذاكرة في المدى البعيد صورة الأبطال كما يحفظ تبادل الأدوار في الميدان على صمود الحد الأدنى من مقومات العيش؛ صمودٌ لطالما شهدناه في مراكز إيواء النازحين في غزة ولبنان.

لا تكتفي الذاكرة بلحظات آنية أو قريبة لحفظها. لا بد من الرجوع إلى الوراء. نتذكر مثلاً حين بكى محمود درويش أثناء القاء قصيدة “كيف نشفى من حب تونس” وذلك قبيل مغادرته تونس عام 1994 عائداً إلى فلسطين. قال حينها مودعاً تونس: “حافظي على نفسك يا تونس، سنلتقي غداً على أرض أختك: فلسطين. هل نسينا شيئاً وراءنا؟ نعم نسينا القلب، وتركنا فيك خير ما فينا، تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيراً”.

نعود إلى درويش أيضاً في قصيدته “مديح الظل العالي”: “أيها البطل انكسر فينا”. ملحمة شعرية تعكس مرحلة فلسطينية تاريخية. لم يُعبّر الشاعر عن هشاشة الروح وانكسار البطل حينها بل ثمة دلالات قوة وأمل في قتال الفدائي الفلسطيني وحده حين سقط القناع. كان محمود درويش متمسكاً “بآخر الطلقات”. قال لنفسه “نامي قليلاً، يا ابنتي، نامي قليلاً. الطائرات تعضّني. وتعضّ ما في القلب من عسلٍ، فنامي في طريق النحل، نامي قبل أن أصحو قتيلا”.

من هنا يُمكن تفسير ما كتبه المفكر اللبناني مصطفى حجازي عن هذه الحالات: “من هنا تعلق الناس بخفقات الحياة التي يجدونها في شعر بعض الشعراء في الحب والوطنية، حيث يشعر المرء للحظات بعودة الروح. يُشكّل هؤلاء الشعراء صوتاً ناطقاً نيابة عن الناس يصرّ على التعبير عن فرحة التعبير عن الكيان المليء حباً ووطنية”.

استعيد هنا نظرة الممثل خالد تاجا (أبو أحمد) في مسلسل “التغريبة” الفلسطينية عندما بكى وهو يأكل قطعة من الخبز اليابس ونظر إلى الواقع بكل قسوته حيث الهجرة واقعاً والانكسار واقعاً والجبروت واقعاً، فذلك ماضي أجدادنا الذي يُنقل إلينا ويُورّث ويُترجم بمختلف الأدوات الممكنة كي لا يضيع الحق.

تهون الأمور أحياناً على الانسان الذليل المهدورة حقوقه في بلادنا ولكن لا يهون عليه انكسار الآخر؛ رأينا ذلك في عيون الحاجة فاطمة مروة، السيدة اللبنانية التي هُدِمَ بيتها وتناثرت زريعتها في كفرمان في الجنوب.

إقرأ على موقع 180  الإستبداد.. وهزيمة مشروع الإنسان العربي

***

لا مفر من الحقيقة. تلك قضية تُثبّت مبدأ الانتقام من العدو ولو بعد حين. يكون الخيال بالياً إن لم يتجدد مع الواقع. يتجدد الواقع وينمو ويتطور ويتقدم حين يكون الكل في موقع المتماسك إجتماعياً وفكرياً وثقافياً ومعنوياً وأخلاقياً.

نسأل مجدداً كيف يمكن للإنسان المهدورة حقوقه، أن يتخطى سور الواقع ويهدم قصور الوهم من دون اعتراف الآخر به؟ من دون إعادة بناء قدراته وحماية روحه المنبوذة في بلادنا هذه وبالتالي إعادتها وإعادة اعمارها؟

يُعوّل الانسان المظلوم على المحارب الأول المتمثل في الآخر بعد أن يستسلم هو للهزيمة. يفهمها الآخر فيتقدم إلى الجبهة الأمامية! مهمته أن يحارب؛ أن يحمي ويقول الحقيقة عادة. قد يستعين المبعدون قسراً بهذه الأدوات. لطالما عوّل الفلسطيني اللاجىء على أهل الداخل. هم في خط المواجهة الأمامية! لطالما بقيت غزة وحدها منذ البدء وكان الآخر معها عاطفياً.

كيف نُخفّف من وطأة القدسية المستميتة، سلطة أبوية ودينية وحزبية، فنرى الآخر ببساطته وانسانيته؛ مرضه أو انكساره من دون أن يكون ملاكاً؟ هل علينا أن نكون مثقفين وملمين بكل دلالات لا وعينا للوصول إلى التفسير الحقيقي لواقع لا يريد أن يعترف بإنسانية الإنسان؟

يعلم الإنسان الذي هُدرت طاقاته ماهية حقوقه وواجباته الأسرية والوطنية، ولكنه لا يأبه للمواجهة مجدداً. لا يأبه للعودة إلى الحياة ولا للبحث المستمر عن الحقيقة البسيطة أو تثبيتها. تثقل هذه البساطة كاهله، فيُفضّل أن يبقى على فراشه يموت ميتة حيوان بعيون ذليلة. إنّها الصورة الأكثر واقعية لوصف الانسان الذليل، فهو لا يفرق عن الدابة التي تم ذبحها لمرات فتكورت على نفسها تبكي أحياناً بعيون ذليلة، تشرب بعيون ذليلة، تأكل بعيون ذليلة، وتتألم بنفس العيون لكن بكامل الهدوء! لا تستجدي من يقدم لها الطعام ولكنها لا ترفضه! تتعود على الشعور بالشفقة! على المذلة النفسية والكونية جمعاء. يتبخر الاحترام الذاتي كما يتبخر الفرد حين يخرج عن طاعة القطيع فيتم نبذه. ليس ذنبه أنه لم يكن قوياً كما يحدث في الأفلام، وليس ذنبه أنه استسلم، لكن ذنبه أنه قطع أوصال روحه بالحياة. كيف لم تقطع أوصال روح غزة بالحياة وهم يموتون جوعاً؟ وإن قطعت لماذا؟ إنه الواقع وهو فوق إرادة الانسان أحياناً كثيرة. في المقابل، هناك من فضّل أن تُسلَخ روحه مرة واحدة فيموت من الداخل بدل ان يعيش حياة مزدوجة! حياة الشارع العربي المغيّب..

نسبح في القاع مع الطين، في مجاري المستنقعات، نعيش عيشة الطفيليات ولا نعرف عن أنفسنا فهي غير موجودة. يهون الموت أمام اكتظاظ النازحين وعريهم وانتهاك مؤسسات الدولة لكرامتهم. في المقابل، نرى المثقف المبجل يحرض على عدم الرضوخ، لكن هل يرى يوماً نفسه قريباً منّا؟ بالطبع نتحدث عن المثقف المزدوج فهو الغريق الأول، الذي يصّر على اغراق من هم حوله إذا خالفوه في رأيه وهذا هو حال مثقفي بلادنا المنفصلين عن الواقع. أما الانسان الذليل في الشارع العربي ومهما بلغ ذله فهو لا يزال أكثر احتراماً من ذلك المثقف.

لقد أخذت فلسطين منّا وبيعت أمام أعيننا. وتباع بقاياها على مرأى من عيون الأجيال الجديدة. لا ينتظر العدو المتوحش سبباً أو ثغرة للتوغل؛ لا يرضى العدو بأقل من ارتكاب مجازر لا يستوعبها العقل الإنساني كي يجرف الأراضي والبيوت والذكريات من وعينا. لا ينتظر العدو النازي تبريراً لانقضاضه على البشر، ولكن تنتظر الأنظمة والمجتمعات العربية تبريراً لضعفها وتواطؤها.

يتحول الانسان إلى شبح لا يراد منه الا النوم ومن ثم النوم. يتوقف المشهد هنا، يحاول المحاربون جمع اشلاءهم فلا يرضخون. تتسع الجبهة ولا يزيد الخوف بل تنطلق الطلقات المدافعة عن الشرف، الأرض، الروح، الحياة، المرأة، الطفل، البيت، القرية، الأضرحة، التاريخ والتراث وغيرها من الجذور ومعالم الحياة والحرية.

تطول السنون وتطول الأفلام وتقصر مدتها. تتحول المشاهد من قهر واضطهاد وقمع وتعذيب، إلى موت سريري في الحياة، إلى كائن يدب على الأرض ولا يرى الآخر الجميل إلا بعيون ذليلة. تقصر المشاهد لتتكاثر اللقطات، تتطاير كما تتطاير الأشلاء في غزة. تتفجر البيوت ولا تتفجر طاقات الشعوب.. سيكون المتطوع هو الآخر، والطفل هو الآخر..

ذليلٌ هو الانسان المهدور، ومترفعٌ هو الانسان المحارب، يقاتل الرفاق على الجبهة ويحاربون من أجلنا، دون اعتراف الآخر بهم. هم من استطاعوا أن يخلقوا ضوء القمر في ذواتهم ومن ذواتهم. وهكذا ستعود فلسطين. نعم ستعود فلسطين إلينا.. لا بد أن نقطع الحبل الوهمي، ولا بد للخيال حينها أن يتسع لفلسطين كاملة من نهرها إلى بحرها فذلك خيال مشرّف ولو في واقع غير ملموس.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الإستبداد.. وهزيمة مشروع الإنسان العربي