

كانت العولمة، رؤية ربطت العالم عبر التجارة المفتوحة، مما سمح لرأس المال والسلع بالتدفق بحرية عبر الحدود، في محاولة لبناء اقتصاد عالمي متكامل ومزدهر. لكن بعد عقود من ذلك، توصل الغرب بزعامة الولايات المتحدة إلى استنتاج مثير: العولمة كما نُفذت لم تحقق له التفوق الاقتصادي والسياسي الذي كان يأمله، بل على العكس، أدت إلى تآكل قاعدة صناعية حيوية، وزيادة الاعتماد على المنافسين الجدد، ولا سيما الصين التي استفادت بشكل هائل من الانفتاح العالمي.
ومع تراجع الاقتصاد الغربي في مواجهة صعود الشرق، بدأت الدول الغربية تدريجياً تفرض قيودًا على أسواقها، وتعيد التركيز على الإنتاج المحلي، وبخاصة في الصناعات الحساسة ذات العلاقة بالأمن القومي، مثل التكنولوجيا المتقدمة والإلكترونيات الدقيقة. فهل كانت العولمة السبب في هذا التراجع؟ الواقع أكثر تعقيدًا.
الخطأ الكبير لم يكن في العولمة نفسها، بل في النظام المالي الذي سمح للعولمة بأن تنقلب ضد الغرب. أساس المشكلة يكمن في الانفصال عن المال الصلب (Hard Money))، وهو ما يعني التخلي عن العملات المدعومة بالذهب أو الأصول ذات القيمة الحقيقية.
مشكلة الغرب الحقيقية كانت في الانفصال عن نظام مالي صارم يعتمد على أصول حقيقية. لذلك، إذا كانت الدول الغربية تريد أن تستعيد قوتها الاقتصادية وأن تعيد بناء صناعاتها الحيوية، فإنها بحاجة إلى التفكير بجدية في العودة إلى معايير نقدية صلبة، مثل الذهب (أو حتى أصول جديدة مثل البيتكوين) التي توفر خصائص مشابهة للذهب من حيث الندرة والثبات
لماذا الذهب؟ لأن الذهب كان يُشكّل صمام أمان اقتصاديًا، يمنع الدول من الاستمرار في خلق عجز تجاري مستدام دون دفع ثمن حقيقي. عندما كانت الدول تدير عجزًا تجاريًا كانت مضطرة لتسويته بالذهب. في حالة الولايات المتحدة، حين تدير عجزًا كبيرًا ومستمرًا، كان عليها أن تصرف احتياطياتها من الذهب للحفاظ على توازن عملتها.
هذا النظام ألقى عبئًا حقيقيًا على الدول لضبط ميزانها التجاري. مثال بارز على ذلك حدث في ستينيات القرن العشرين، عندما طبعت أميركا كميات هائلة من الدولارات لتمويل حروبها في كوريا وفيتنام. تلك الدولارات خرجت إلى الخارج، وبدأت الدول الأخرى تستبدلها بالذهب. هذا الاستنزاف الضخم لاحتياطيات الذهب الأميركية دفع إدارة ريتشارد نيكسون إلى اتخاذ قرار حاسم بإلغاء قابلية تحويل الدولار إلى الذهب في العام 1971. وبجانب هذا القرار، أبرمت إدارة نيكسون اتفاقًا حيويًا مع السعودية جعلها تبيع النفط فقط بالدولار الأميركي، وهو ما عرف لاحقًا بـ«نظام البترودولار». هذا الاتفاق ضمن أن الطلب العالمي على الدولار سيظل قويًا، حتى بعد فقدانه الدعم بالذهب، لأن النفط، كسلعة استراتيجية عالمية، يُتداول حصريًا بالدولار. وبذلك، استمر الدولار كعملة احتياطية عالمية، ما أعطى الولايات المتحدة قدرة غير مسبوقة على تمويل عجزها التجاري وطباعة العملة بحرية دون أن تنهار قيمة الدولار.
نتيجة لذلك، لم يعد هناك حد لطباعة الدولار، ولم يعد العجز التجاري مشكلة حقيقية على المدى الطويل. فبدلاً من الاضطرار إلى توازن التجارة، أصبحت أميركا قادرة على استيراد السلع والخدمات بينما تطبع الدولارات لتغطية العجز.
هذه الحرية النقدية لم تشجع فقط على نقل الصناعات إلى الخارج، لكنها أضعفت أيضًا القاعدة الصناعية في الغرب، وأدت إلى فقدان وظائف جيدة، وانخفاض القوة الشرائية للطبقة الوسطى، وتزايد التفاوت الاقتصادي. في المقابل، استثمرت الصين بحكمة في بناء قطاع صناعي ضخم، مستفيدة من اليد العاملة الرخيصة والسياسات الحكومية الموجهة، ما جعلها أكبر رابح في نظام العولمة.
من منظور الأرقام، يوضح الفرق الكبير في مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي بين الولايات المتحدة والصين حجم التغير. ففي العام 1990، شكّلت الصناعة نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، بينما كانت في الصين أقل بكثير، لكنها في تزايد سريع. وبحلول العام 2025، تراجعت مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي الأميركي إلى حوالي 11-12% فقط، في حين ارتفعت مساهمة الصناعة في الناتج الصيني لتصل إلى ما يقارب 30-35%، مما يعكس توسع الصين الصناعي الكبير مقارنة بالركود الصناعي النسبي في الغرب.
وعند النظر إلى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، نجد تباينًا واضحًا يوضح الفجوة الاقتصادية بين البلدين. في العام 1990، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة حوالي 23,000 دولار، في حين كان في الصين أقل من 300 دولار فقط. بحلول عام 2025، ارتفع نصيب الفرد في الصين بشكل كبير ليقترب من 12,000 دولار، مدفوعًا بنمو اقتصادي هائل وتحسين مستويات المعيشة، بينما بلغ نصيب الفرد في الولايات المتحدة نحو 75,000 دولار، ما يعكس استمرار التفوق الاقتصادي الأميركي ولكن مع تناقص الفجوة نسبيًا نتيجة النمو السريع للصين.
اليوم، وبعد سنوات من هذه التجربة، يعيد الغرب تقييم هذا النموذج. لكنه يرتكب خطأ شائعًا بتوجيه اللوم إلى العولمة نفسها، متجاهلاً أن المشكلة الحقيقية كانت في الانفصال عن نظام مالي صارم يعتمد على أصول حقيقية. لذلك، إذا كانت الدول الغربية تريد أن تستعيد قوتها الاقتصادية وأن تعيد بناء صناعاتها الحيوية، فإنها بحاجة إلى التفكير بجدية في العودة إلى معايير نقدية صلبة، مثل الذهب (أو حتى أصول جديدة مثل البيتكوين) التي توفر خصائص مشابهة للذهب من حيث الندرة والثبات. بدون هذا الأساس القوي، سيظل الغرب عرضة لتآكل صناعي متزايد، وفقدان القدرة على المنافسة، وسيتحول العالم نحو نظام متعدد الأقطاب تتنافس فيه القوى الكبرى على موارد الصناعة والتكنولوجيا بدلاً من الأسواق الحرة.
في النهاية، الدرس واضح: العولمة ليست السبب في تراجع الغرب، بل النظام النقدي الضعيف هو الذي سمح لهذا التراجع بالحدوث. العودة إلى المال الصلب ليست مجرد خيار، بل ضرورة استراتيجية للبقاء في عالم يتغير بسرعة.