“دشّن انهيار الكتلة السوفياتية، قبل ثلاثة عقود، سيرورة جديدة من التباعد بين الولايات المتحدة ودول القارة الأوروبية وتفكك الشراكة بينهما. وقد تسارعت وتيرة هذه الوجهة في إبان رئاسة دونالد ترامب.
في الخلفية: غياب التهديد الاستراتيجي للدول الأوروبية وللولايات المتحدة، في موازاة إمكان اعتماد سياسات من خلال أطر ومنظمات دولية متعددة كبديل من الحوار الثنائي، وكذلك الاستعداد الأميركي لاستخدام القوة العسكرية لخدمة غايات ومصالح، خلافاً للنفور الأوروبي من فعل ذلك، إضافة إلى التحول الجيوـ استراتيجي والاقتصادي الأميركي نحو آسيا، حيال التعاظم الصيني. تحت ستار خفيف من “العمل كالمعتاد”، نشبت بين الدول من كلا جانبيْ المحيط الأطلسي خلافات جوهرية. فبينما واصلت أوروبا اعتبار المنظومة الدولية، القانونية، المؤسساتية والدبلوماسية، أحجاراً أساسية في إدارة السياسة على الصعيد الدولي، ارتأت الولايات المتحدة تفضيل طريقة العمل المستقلة التي تعتبر القنوات والأدوات الدولية عائقاً أمام تطبيق السياسات وتعتبر شركاءها التقليديين أعداءً، أكثر من كونهم شركاء في وضع السياسة وتنفيذها، والتي في صلبها وضع المصالح الأميركية في المركز وفي المقام الأول. وقد كان استياء القادة الأوروبيين من أداء الولايات المتحدة ورئيسها ترامب مصحوباً بالاستخفاف به والابتعاد عنه، حتى قبل دمج تعبير “أميركا أولاً” في الخطاب الدولي.
إنتخاب بايدن
غير أن انتخاب جو بايدن للرئاسة الأميركية من شأنه أن يزيد من فرص استئناف الحوار الاستراتيجي بين أوروبا والولايات المتحدة، ولا سيما أن هذا الحوار حيوي جداً للمواجهة الناجعة مع التحديات والأخطار المحدقة بالقيم والمصالح، كما حددها الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية الجديدة. هذا ما عبّر عنه الحزب الديمقراطي الأميركي، في برنامجه الانتخابي الرسمي، وكذلك الرئيس المُنتخَب خلال المعركة الانتخابية وفي إثرها. كما نشر الاتحاد الأوروبي اقتراحاً لجدول أعمال عابر للأطلسي وللتعاون الكوني يأخذ في الحسبان موازين القوى والواقع الجيو سياسي والتكنولوجي المتغير على الساحة الدولية. وقد نُشر المخطط التفصيلي الذي صاغته مفوضية الاتحاد الأوروبي تحت عنوان “جدول أعمال جديد للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من أجل التغيير العالمي”، بالإضافة إلى توصيات مجموعة التفكير في إطار “الناتو 2030 ـ مُتَّحِدون نحو عهد جديد”.
ثمة منظومة قيمية مشتركة في أساس الشراكة العابرة للأطلسي تقوم على احترام حقوق الإنسان وحرياته، والمساواة الجندرية، وحقوق الأقليات، وسيادة القانون، والديمقراطية والتعددية التي تتكئ في الجانب الاقتصادي على السوق الحرة والتجارة الدولية المنظمة والمنصفة. يقترح الجانب الأوروبي تضمين جدول الأعمال هذا توجهاً مشتركاً لسلسلة من القضايا الدولية والإقليمية. وقد وضع الاتحاد الأوروبي على رأس سلم أولوياته الحرب ضد جائحة كورونا والخروج من الأزمة الاقتصادية التي نجمت عنها، ثم الأجندة “الخضراء” (سلامة البيئة وقضايا المناخ)؛ القضايا التكنولوجية؛ التجارة؛ معايير النظام الديمقراطي وتعزيزه وتوسيعه.
هذه المبادئ تصطدم بتحديات استراتيجية وأيديولوجية تضعها دول وحركات متعددة، في مقدمها الصين وروسيا. فقد أبدت كلتاهما خلال السنوات الأخيرة درجة متزايدة من الحضور والحزم على الساحة الدولية، وسط تهديد الاستقرار في مناطق متعددة من العالم. وفي تقدير الدول الأعضاء في حلف الـ”ناتو”، ثمة قوة ومناعة اقتصاديتان وتكنولوجيتان تتمتع بهما هذه المنظمة تجعلانها قادرة على مواجهة التحديات، لكن ذلك يستدعي تعميق وتوثيق التنسيق بينها والاتفاق على برنامج وجدول أعمال للعمل المشترك.
حيال نية الرئيس المنتخَب بايدن العودة إلى الاتفاق النووي، يتعين على إسرائيل بلورة موقف حكيم يأخذ في الحسبان الدروس المستفادة من المعركة ضد انضمام الولايات المتحدة إلى الاتفاق (في سنة 2015، في عهد الرئيس باراك أوباما)
تحديات إسرائيلية
يتعين على إسرائيل التفكير في مواقفها حيال القضايا التي يلوح في الأفق توافق مبدئي بشأنها بين الولايات المتحدة وأوروبا:
المنظومة القيمية: إن تمسُّك أوروبا والولايات المتحدة بقيم الديمقراطية، والحريات الفردية، وسيادة القانون والمنظومة القضائية والمؤسساتية الدولية، كقاعدة للعمل المشترك العابر للأطلسي، من شأنه أن يشكل تحدياً للعديد من الدول، بينها إسرائيل. وذلك لأن إسرائيل أصبحت تبدو، أكثر فأكثر، في نظر أوساط متعددة من الجناح الليبرالي بين الجمهور الأميركي، وكذلك في أوروبا، أنها تتصرف بما يتعارض مع منظومة القيم هذه في حالات كثيرة. فمنذ بضع سنوات، تشكل صورة إسرائيل هذه في نظر عدد من حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى سياسات الحكومات الإسرائيلية في قضية الاستيطان في الضفة الغربية، سبباً في تجميد، بل شلّ، الحوار السياسي المتبادل على المستوى القيادي الرفيع. قد يؤدي استئناف الحوار العابر للأطلسي والتعاون الذي قد يترتب عليه إلى تعزيز الصورة الإسرائيلية السلبية في واشنطن أيضاً، في كل ما يتعلق بمناعة الديمقراطية فيها (إسرائيل) ومدى محافظتها على حقوق الفرد وسيادة القانون.
المشروع النووي الإيراني: وجّه الاتحاد الأوروبي تحية إلى الرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، على خلفية نيته العودة إلى إطار الاتفاق النووي مع إيران (JCPOA)، مؤكداً أن مجلس الأمن الدولي قد تبنى هذا الاتفاق في قراره رقم 2231، بموافقة الولايات المتحدة وتأييدها. وقد حيّا كل من ألمانيا، فرنسا وبريطانيا عزمَ بايدن على العودة إلى هذا الاتفاق ورفع العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب على إيران، في مقابل عودة إيران إلى الالتزام التام والكامل بشروط هذا الاتفاق. وقد أعلن بايدن والشركاء الأوروبيون في هذا الاتفاق أن العودة إليه ستشكل نقطة انطلاق نحو مباحثات جديدة في جملة من القضايا، بعضها مرتبط بالاتفاق وبعضها الآخر جديد لا علاقة له به ـ مثل الصواريخ والسلوك الإيراني في منطقة الشرق الأوسط ـ لكن لم تجرِ معالجتها في إطاره.
يُذكر أن التزام الولايات المتحدة بالاتفاق والتوجه الإسرائيلي حياله قد سبّبا أضراراً جدية للعلاقات الإسرائيلية ـ الأميركية وعمّقا هوة الخلاف بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي. في ضوء ذلك، وحيال نية الرئيس المنتخَب بايدن العودة إلى الاتفاق، يتعين على إسرائيل بلورة موقف حكيم يأخذ في الحسبان الدروس المستفادة من المعركة ضد انضمام الولايات المتحدة إلى الاتفاق (في سنة 2015، في عهد الرئيس باراك أوباما)، ودلالات انسحاب الولايات المتحدة منه في سنة 2018، والذي استجرّ سلسلة من الخروقات الإيرانية لبنود الاتفاق، بالإضافة إلى سياسة “الضغط الأقصى” الأميركية على إيران، والتي يبدو أن بايدن يرفضها. استمرار السياسة الإسرائيلية الحالية سيخلق صداماً مع الإدارة الجديدة (إن هي قوبلت بالتجاهل من طرفها)، ومع الاتحاد الأوروبي، على حد سواء.
تعمق، في كلا جانبي المحيط الأطلسي، الفهم أن تركيا تتحول إلى مصدر إزعاج استراتيجي. الحوار الأوروبي ـ الأميركي في مسألة المواجهة مع تركيا هو الإطار المريح بالنسبة إلى إسرائيل التي تفضّل أن تبقى خلافاتها الثنائية مع تركيا خارج بؤرة الانتباه والتركيز الدوليين
العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين: في الوقت الذي يتفق فيه الحزب الديمقراطي الأميركي والاتحاد الأوروبي على الحاجة إلى حل متفَّق عليه على أساس مبدأ دولتين لشعبين، إلّا إن ليس ثمة تماثُل بينهما بشأن المركّبات المركزية للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. فعلى عكس موقف الاتحاد الأوروبي، لا يذكر برنامج الحزب الديمقراطي السياسي حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967. في البرنامج الديمقراطي ثمة اعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل (من دون أي تطرّق خاص منفصل إلى القدس الشرقية)، بينما يتعامل الاتحاد الأوروبي مع القدس كلها ككتلة واحدة، ومع القدس الشرقية كجزء من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في سنة 1967. وزيادة على هذا، وعلى الرغم من الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، إلّا إن برنامج الحزب الديمقراطي يشير إلى أن مكانة القدس تبقى موضوعاً للمفاوضات في إطار المباحثات بشأن التسوية النهائية. وبينما يعارض الاتحاد الأوروبي المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، يعبّر برنامج الحزب الديمقراطي عن معارضته لتوسيعها.
إلى جانب اختلاف المواقف بينه وبين الولايات المتحدة، والذي سيكون له وزن ومعنى في حال استئناف المفاوضات السياسية الإسرائيلية ـ الفلسطينية، يدعو الاتحاد الأوروبي إلى التعاون مع الإدارة الأميركية الجديدة في صوغ وتحديد الشروط لتحقيق تقدم جدّي في العملية السياسية، ولا سيما من خلال عمل مشترك لبث روح الحياة من جديد في “اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط” (الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة). في إطار الحوار الذي سيبدأ مع الإدارة الأميركية الجديدة في سياق العملية السياسية في الشرق الأوسط، ستكون الحكومة الإسرائيلية ملزَمة بعرض مخطط شامل للتقدم يشمل تطرقاً إلى قضايا مركزية وحساسة، مثل استمرار البناء في المستوطنات القائمة، إضافة إلى طرح مقترحات عينية لتحسين الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما في ذلك النشاط الاقتصادي الفلسطيني في مناطق “ج” (C)؛ إلّا إن المعارضة الإسرائيلية الجارفة لخطوات محددة، مثل استئناف التمويل الأميركي لـ”وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” (الأونروا)، أو المشاورات والمداولات في إطار “اللجنة الرباعية للشرق الأوسط”، قد تؤدي إلى إثارة التوتر مع الإدارة الأميركية الجديدة.
منطقة شرق البحر المتوسط: تعمق، في كلا جانبي المحيط الأطلسي، الفهم أن تركيا تتحول إلى مصدر إزعاج استراتيجي. الحوار الأوروبي ـ الأميركي في مسألة المواجهة مع تركيا هو الإطار المريح بالنسبة إلى إسرائيل التي تفضّل أن تبقى خلافاتها الثنائية مع تركيا خارج بؤرة الانتباه والتركيز الدوليين. ومع ذلك، لا مصلحة لدى إسرائيل في خلق الانطباع وكأنها تدفع نحو إجراءات ردعية وعقابية ضد تركيا.
خلاصة
يمثل دخول جو بايدن إلى البيت الأبيض فرصة لفتح صفحة جديدة في منظومة العلاقات العابرة للأطلسي. لا يزال من السابق لأوانه تقييم حجم ومدى التغيير في السياسة الأميركية، غير أن المتوقع هو أن تبذل الولايات المتحدة ـ إلى جانب الخلافات في الآراء ـ جهوداً لافتة لتنسيق المواقف مع الاتحاد الأوروبي في سلسلة من القضايا التي ستشكل الواقع الجيو ـ استراتيجي خلال العقود المقبلة، بعضها ذو صلة بإسرائيل وذو أهمية بالنسبة إليها. تُحسن إسرائيل صُنعاً إن هي أخذت في الحسبان التغيرات التي تلوح في الأفق وبلورت مواقفها انطلاقاً من التقدير أن الإدارة الأميركية الجديدة والاتحاد الأوروبي سوف يطرحان مواقف منسَّقة، مشتركة، في القضايا التي تعنيهما وتهمّهما (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).