زمن التفاهة.. واليأس البنّاء!

إنّه اليأس. لا بد من الاستسلام. نحن من سلالات الهزائم والدم المسفوك. لا تسأل أين نحن اليوم وكيف كنا بالأمس. سيَّان.

بسبب الدم المسفوك والقتل المباح والسفك الاختصاصي، هناك ما يدعونا إلى رفع تحية الوداع. هناك من يرضى بالعار ولا يستره، وهناك من يحتال طلباً للنجاة. الدليل: لا وجود لشعوب في القارة العربية. هناك شعوب حيّة تنتفض وتثور وتدفع أثمان انتصاراتها وخسائرها. عندنا، شعوب تشتري ذلها بالإكراه وفقدان الكرامة وامحاء الإنسانية.. يقنعون، فيشترون بكرامتهم ما يتناسب ونقيضها من الإذلال.

نحن بشر. طبعاً.

نحن إنسانيون. طبعاً.

نحن نحب وننتمي وننجب ونبدع طبعاً.

لكن ثمن ذلك مؤلم، وتحديداً، عندما يبيع الشعب إنسانيته وكرامته وضميره، مقابل الإقامة على مقربة من سياسات وقبضات التوحش.

لنقترب أكثر من الواقع راهناً. مسموح لك أن تستسلم وتُطيع. علماً أن شعوبنا في مواقع كثيرة، لم تكن مدربة على الخضوع. ثارت. ناضلت. استشهدت، بلغت رتبة العطاء عرقاً ودماً. صانت كرامتها وحقوقها، لكن الطلقات والقبضات والكليشيهات وسياسات التعذيب، دفعتها إلى معادلة: “حسبي الله ونعم الوكيل”. ازداد التوحش السلطوي، عالمياً وعربياً، وبتنا نترحّم على حرية كانت بداية عصر النهضة.

هل ثمة مبالغة هنا؟

يا حيف. “الوطن” العربي المديد، صار سجناً محروساً بعناية التبعية، وقبضة الأمن وقبضات الشرطة، وأحكام القضاء الذي قضى على نفسه عندما نصّبوه تحت “قوس العدل”.

إنسَ.

لا أعرف كيف يُعتقل شعب من المحيط إلى الخليج.

لائحة القتلى والممنوعات كبيرة.

الحرية: لا نتلفظ بها. بديلها “أمرك مولاي”.

الحقوق: إنسَ. “الحقوق” جائزة لخدم السلطة. من المحيط إلى الخليج.

العدالة: إصمت. القتل لا العدل أساس الملك.

الكرامة: “خيط بغير هالمسلّة”. نعل حذاءك أكثر نقاء وتعبيراً من الجباه المعطوبة والمنحنية.

الديموقراطية: “سد بوزك”. العسكر ضد الأمراء. ضد الملوك. ضد أمراء الطوائف والمذاهب والمذابح.

الدين: اصمت الدين هنا، مرتعه وخيم. من كلام إلهي إلى أوامر بلطجية السلطة. عالم عربي يتعرض إلى مزيد من الإكراه واعتبار الصمت فضيلة.

لم يكن ذلك كذلك أبداً. شعوبنا في بدايات عصر النهضة في أواخر القرن التاسع عشر، لم تكن مدربة على الخضوع أبداً. شعوب عربية، ثارت، ناضلت، التزمت، اجتهدت، بلغت رتبة الإبداع والعطاء على مدى عقود من الزمن. وفي أزمنة التحرر والتحرير اشترت قوى الشعب، أرضها وحريتها بدمائها. قم بزيارة عواصم عربية، تجد أن سنوات النضال، تُوّجت بانتصارات، إلى أن تبوأ العسكر السلطة، فأباد الحرية والأحرار. دخلنا في عصر الصمت. الكلام المسموح هو الكلام “المُنزّل” في جزمات السلطة وجلاوزتها وأصحاب النجوم والسيوف المرصعة على زيهم العسكري.. والغريب، أن رجال الدين ومواقع السلطات المذهبية، باركت وقاتلت وتقاتلت، لنصرة الظالم على المظلومين.

الحكمة السياسية راهناً: “الاستسلام”.

الحكمة تقول: “اليد التي لا تستطيع كسرها، قبِّلها (بوسها) وادع عليها بالكسر”. يا عيب الشوم. هذا كلام يحيلنا إلى زمن استعادة العبودية والإقامة فيها. أما النخب فقد اختارت العدم السياسي. قرّرت أن تمارس مهنة الخدم مع نجوم تُرصّع أكتافها وصدورها، لزوم الزينة فقط.

أما الطامة الكبرى، فقد تم القبض على الإعلام. جرى تدجينه حتى يأتمر بأوامر الأقوياء.. والناس على دين ساستها.

سابقاً، في زمن حرية مسموحة مع قيود رخوة، كانت الجامعات والكليات والمعاهد والصحف والمجلات ودور النشر، تنتج قامات فكرية، ومعرفة جديدة، وترسم آفاقاً طموحة.. كل هذا راح وانتهى. وسائل المعرفة تنتج قطعاناً من الغنم. أما الهاتف الخلوي، فصار نبع معارف، ومساهمة العرب فيها محصورة فقط بالاستهلاك.

مصر التاريخ الذي لم ينقطع عن التطلع للحرية؛ مصر الفكر والعبقرية والتحدي والإنجاز، مصر جمال عبد الناصر ومن معه من غير المصفقين والمنتفعين، غرقت في طوفان القضايا.. من تكون مصر حتى تُفتح عليها أبواب الجحيم؟ أخطاء، وانعدام مساءلة، ونقاش داخل أبواب مغلقة.. واعتقال الفكر والتفكير، والاستعاضة عنها بالخطب، التي انتهت ألفاظاً وكلاماً.. وخسائر.

بائس هذا العالم العربي.

بغداد، قالت لنا وداعاً.. ذئاب الغرب وأذناب العرب، نهشوا لحم العراق، بعدما كدّس صدام حسين حروبه الفاشلة، ودكتاتوريته الإلغائية، وإرهاب وإرعاب الناس، حتى وهم في أرحام أمهاتهم. أما سوريا، فلم تحز على فوز ما. ها هي متروكة، لدول تُغالي في إذلالها وقهرها. سوريا هذه، كانت قد أنفقت كل ذرة من ذرات الحرية، ومارست سياسة: أنا أو لا أحد. ثم صارت: لا أنا ولا أحد. والقادمون الجدد على وشك تقديم نموذج غير مسبوق بالهمجية.

لا شعب في هذه الكيانات. ولا شعب أيضاً في دول وآبار النفط وصحاري الأمن. في ستينيات القرن الماضي، سبق أن تخلت الأنظمة عن خلافاتها، وساهمت برؤوس شفاهها، في معارك التحرير الخاسرة حتماً.

سجل تاريخي حافل باللا شيء إنسانياً. اللا شيء شعبياً. الشعوب العربية معتقلة، إما بـالأمن أو الفقر أو العنف أو المنع أو السجن أو النار.. لا شعب أبداً، في كل دولنا العربية. لا شعب حيث لا حرية.. ولا مساءلة بلا حرية.. ولا جردة حساب بلا حرية شعب.

إقرأ على موقع 180  لستُ شيوعياً.. لكن متى تنفجرُ الثّورةُ الماركسيّةُ العالميّةُ؟ (1)

إنه اليأس ولا بد منه. المضي إلى جدار اللاعودة، يفرض على الإنسان العربي سؤالاً واحداً: هل ترغب في أن تبلغ إنسانيتك. الحكومات والسلطات والمواقع والمتاريس، جرّدت الشعوب من إنسانيتها. ثم ما سرغرامنا الفاحش بإغراء السلطة، فيصبح الإنسان عارياً وعاجزاً وقابلاً على مضض بالإهانات.

وعليه قل وداعاً:

للعروبة.. يا حرام. لم يبقَ منها إلا ما كتبه حالمون كبار بالحرية والديموقراطية والإنسانية. لقد تم اغتيالهم، إعداماً أو إهمالاً. المطلوب تطويب الصمت الفكري. ولقد حدث ذلك البديل، ألا وهو ترف التفاهات أو بالأحرى زمن التفاهات.

أخيراً؛

لا بد من امتهان اليأس البنّاء. اليأس الذي يضع فاصلاً حاسماً، بين مستحيلين: استحالة انتصار الظلم، واستحالة صمت المظلومين.

أخيراً مرة أخرى؛

لا بد من اليأس البنّاء.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  17 عاماً على إعدام إيهاب الشريف.. بلا مسؤوليات!