

ما جرى التفاوض بشأنه فى منتجع كامب ديفيد بولاية ميريلاند الأمريكية، ووُقِّع فى أيلول/سبتمبر 1978، هما اتفاقيتان إطاريتان Two Framework Accords:
الأولى: تتضمن المبادئ الإطارية لإبرام معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل.
الثانية: تتضمن المبادئ الإطارية لإبرام اتفاقية لقيام حكم ذاتى فلسطينى فى الأراضى التى احتلت عام 1967.
وبعد إتمام اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، بدأت الاتصالات لإعلان ترتيبات مفاوضات الحكم الذاتى الفلسطينى، وقد رفضت مصر عقدها بالتناوب بين العواصم.. أى بين القاهرة والقدس لعدم اعترافنا بالقدس كعاصمة لإسرائيل.
وبعد مشاورات بين الجانبين، تم الاتفاق على عقد اجتماع على مستوى عال لبحث جميع الجوانب التنظيمية والإجرائية لهذه الاجتماعات.. وقد تم عقد الاجتماع الأول لهذا الغرض بمدينة بئر السبع فى مثل هذه الأيام من ربيع عام 1979 وتشكل الوفد المصرى برئاسة الدكتور مصطفى خليل، رئيس الوزراء ووزير الخارجية وعضوية كل من د.بطرس غالى، وزير الدولة للشئون الخارجية، ود.أسامة الباز، وكيل أول وزارة الخارجية والمستشار السياسى لرئيس الجمهورية، وعدد من المستشارين والخبراء بوزارة الخارجية، وكنت أنا أحد هؤلاء المستشارين.
أما الوفد الإسرائيلى فقد كان برئاسة الدكتور يوسف بورج وزير الداخلية وزعيم الحزب القومى الدينى، وعضوية كل من عيزر وايزمان وزير الدفاع وأرييل شارون (وزير الزراعة فى ذلك الوقت) وشاموئيل تامير وزير العدل (يلاحظ عدم وجود وزير الخارجية موشى ديان). كان الوفد الأمريكى فى البداية برئاسة دبلوماسى محترف هو جيمس ليونارد إلا أنه لم يكن يهوديًا، وقد حل محله دبلوماسى محترف أيضًا ومن الوزن الثقيل وهو لينو فيتز وكان يهوديًا، وكان الوفد الأمريكى يضم عددًا كبيرًا من اليهود، منهم دان كرتزر الذى عين سفيرًا للولايات المتحدة فى القاهرة فى منتصف تسعينيات القرن الماضى.
***
كان من المفترض أن الاجتماع سيتناول الجوانب الإجرائية والتنظيمية فقط، وكان المتوقع أن اجتماعًا على هذا المستوى العالى من التشكيل سيتمكن من الاتفاق بسهولة على كل هذه الجوانب، ولكن عندما طرح موضوع التناوب فى عقد الجلسات بين تل أبيب والإسكندرية بعد استبعاد العواصم، كما طلبت مصر، تساءل الوفد الإسرائيلى عن المكان الذى ستعقد فيه المفاوضات فى مدينة الإسكندرية، وعندما علم أنها ستكون بفندق فلسطين نشأت مشكلة لم تكن فى الحسبان.. فقد اعترض الوفد الإسرائيلى على عقد الاجتماعات بفندق فلسطين بالإسكندرية.. ظن بعضنا أن الأمر لا يعدو أن يكون فكاهة من تلك التى تطلق أحيانًا فى الاجتماعات الرسمية لكسر حدة الجدية.
موضوع المستوطنات هو أكثر الموضوعات التى تجد مساندة عالمية لموقفنا، أما موضوعا القدس والأمن فهما نقطة التقاء الرأى العام اليهودى فى الداخل والخارج. على أى حال انتهت مفاوضات الحكم الذاتى بعد قرابة العام.. وأنتجت عشرات من الوثائق المهمة وتم إقرار عدد منها.. وعند مراجعتها الآن نجد أنها أفضل كثيرًا مما تم التوصل إليه فى أوسلو عام 1994
عندما تبين لنا أنه اعتراض جدى تم رفع الجلسة لإجراء مشاورات جانبية وقد سارع عايزر وايزمان بالقدوم إلى الوفد المصرى معلنًا – وبصوت عال – براءته من هذا الاعتراض، قائلًا: لا يوجد عندى أى مشكلة فى الاجتماع بفندق فلسطين.. بل العكس فإنه المكان المناسب للحديث عن مستقبل فلسطين.. وكان أحد أعضاء الوفد الإسرائيلى من الحزب القومى الدينى يستمع فعلق بقوله: «بشرط أن يكتبوا تحت عبارة فندق فلسطين (إرتز إسرائيل) أى أرض إسرائيل»!
قرر الوفد المصرى عدم إضاعة المزيد من الوقت فى هذا الجدل العقيم.. وهكذا تم اختيار فندق سان استيفانو لعقد الاجتماعات.. وجدير بالذكر أن مناحم بيجين واليمين الإسرائيلى يتعامل مع القضية باعتبارها «مشكلة داخلية»، وظهر ذلك واضحًا فى تشكيل الوفد برئاسة وزير الداخلية وفى استبعاد وزير الخارجية فهم يؤسسون موقفهم على أنه لم تقم فى فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطانى سوى حكومة إسرائيل فهى الوريث الشرعى الوحيد لفلسطين الانتداب.
من ثم فإن احتلالهم للضفة الغربية وغزة فى عام 1967 هو استكمال لكامل التراب الفلسطينى كما كان تحت الانتداب البريطانى، ويقولون إن غزة كانت أرضا محتلة تحت الإدارة المصرية، وأنه حتى مصر لا تدعى أنها جزء من أرضها وكذلك الضفة الغربية هى أراضٍ كانت محتلة من قبل الأردن ولم يعترف أحد فى العالم بضم الأردن لها سوى دولة باكستان.. حتى الجامعة العربية لم تعترف بضم الأردن للضفة.. ومن هذا المنطق أو من هذه «الغلوشة» فإن مفاوضات الحكم الذاتى هى مفاوضات لتمكين الفلسطينيين من ممارسة شئونهم الداخلية وعاداتهم وتقاليدهم فى هذا الإطار المحدود.
***
تقرر فى اجتماع بئر السبع استمرار الاجتماعات على مستوى الخبراء على أن يرفع الخبراء تقارير دورية للاجتماع الوزارى.. وتشكل فريق الخبراء المصرى برئاسة السفير عزت عبداللطيف والسفير ممدوح عبدالرازق وكنت أنا والسفير بدر همام أعضاء بهذا الفريق، أما الوفد الإسرائيلى فكان برئاسة السيد كوبيرسكى وكيل وزارة الداخلية الإسرائيلية وعدد من أعضاء وزارته ووزارة العدل أذكر، من بينهم مائير جاباى وهو يهودى من أصل مصرى وهو ابن عم جاباى الترزى الذى كان أحد أشهر أربعة ترزية بالقاهرة فى الأربعينيات والخمسينيات، وهم شالجيان وصارفيان وديليا وجاباى.
عقد الخبراء عددًا من الاجتماعات وأعدوا تقارير لرفعها إلى الاجتماع الوزارى الذى عقد بالإسكندرية يوم 26 أيلول/سبتمبر 1979 فى جو من التوتر حيث أصدرت إسرائيل قبيل الاجتماع قرارًا يخول مواطنى إسرائيل حق شراء الأراضى فى الضفة الغربية وغزة، لذلك بدأ الاجتماع بكلمة قوية من د. مصطفى خليل عبر فيها عن الدهشة لاتخاذ هذا الإجراء الذى حطم الثقة فى الوقت الذى كنا نعمل فيه على اتخاذ إجراءات لبناء هذه الثقة.. وقد حاول الوفد الإسرائيلى التقليل من أهمية هذا القرار وأشار شامير وزير العدل إلى الخلفية التاريخية لهذا الموضوع فذكر أنه قرار يصحح خطأ تاريخيا ويرفع ظلما وتفرقة عنصرية ضد اليهود.. لأن حظر تملك اليهود للأراضى فى «يهوذا والسامرا» -أى الضفة الغربية- وفى غزة يرجع إلى قرار أصدرته سلطة الاحتلال البريطانى عام 1939 ينص على عدم جواز تملك اليهود لأراضٍ فى يهوذا والسامرا وغزة.
***
لاحظ يا عزيزى القارئ أننا فى هذا المشهد لم نكن – نحن العرب – حتى متفرجين بل كنا فى سبات عميق دام قرنًا من الزمان وكان البريطانيون يعلمون منذ عام 1939 نتيجة الحرب التى ستنشب عام 1948، وسيكون نتيجتها طرد الأغلبية الفلسطينية من المناطق التى ستخصص لليهود وإبقاء الضفة الغربية وغزة بعيدة عن الاستيطان اليهودى لأنهم أى «الاستعمار البريطانى» قرر استبقائها لاستيعاب موجات اللاجئين.. بل ولاستقبال اللاجئين الراغبين فى العودة من الشتات عندما يحين الحين وتصبح الضفة وغزة هما أرض دولة فلسطين المستقلة.
***
موضوع المستوطنات هو أهم ما يشغل بال الرأى العام العربى فهو الخطر الحقيقى الذى يهدد بتغيير الواقع الجغرافى والتركيبة السكانية وبالتالى ضياع الضفة وغزة كما ضاعت أراضى سنة 1948
نعود إلى كلام شاموئيل شامير، وزير العدل الإسرائيلى، ونقرأ من محضر الجلسة العلنية التى عقدت بفندق سان استفانو يوم 26 أيلول/سبتمبر 1979 ما يلى:
«فى عام 1939 بدأ الشباب اليهودى فى فلسطين تمردا ضد الاستعمار البريطانى وكان ذلك أول صدام حقيقى مع إمبراطورية كبرى وذلك احتجاجًا على مرسومين أصدرتهما بريطانيا فى ذلك العام ويقضى أولهما بوقف هجرة اليهود إلى فلسطين (استعمل هو تعبير العودة إلى وطنهم)، ويقضى الثانى بعدم السماح لهم بشراء الأراضى فى جوديا والسامرا وغزة. والآن فإن بلاده (أى إسرائيل) ترى أنه بعد أن ذهب الاستعمار فإنه من السخف أن تظل مثل هذه القوانين العنصرية سارية».
عند ذلك انبرى له عدد من أعضاء الوفد المصرى موضحين أن هذا هو الموضوع هو لب الموضوع.. لأن الموضوع هو الأرض ونحن هنا نتحدث عن الأرض فإذا ضاعت الأرض بالاستيطان وبالشراء وبالإكراه وبمختلف الوسائل فماذا بقى لنتحدث عنه؟
استمرت إسرائيل بعد ذلك فى اتخاذ إجراءات استفزازية مما دعا مصر إلى تعليق مفاوضات الحكم الذاتى، فقد أصدر البرلمان الإسرائيلى (الكنيست) قانونا بشأن القدس يؤكد استمرارها كعاصمة لإسرائيل وأن حدودها التى رسمت بعد حرب الأيام الستة (1967) ووحدتها سوف لن تمس.
كما أزاح مسئول إسرائيلى الستار عن خطط إسرائيل لبناء عدد كبير من المستوطنات خلال الفترة الانتقالية.. وهكذا أوضحت إسرائيل الإطار الذى يجب أن تتم فيه مفاوضات الحكم الذاتى.. لا عودة للقدس مع استمرار بناء المستوطنات.
وكان لا بد من إنهاء مفاوضات الحكم الذاتى.. وكان الطرفان يستعدان لذلك ويتحينان الفرصة لكى يقع اللوم على الطرف الآخر وأذكر أننى كتبت مذكرة فى ذلك الوقت أقول فيها إن هناك وجهة نظر إسرائيلية تقول أنه إذا كان لا مفر من إنهاء المفاوضات فإن أفضل طريقة لإنهائها دون أن يقع اللوم على إسرائيل هو تحطيمها على صخرة القدس حيث أن هناك إجماعًا إسرائيليًا ويهوديًا عالميًا على موضوع القدس، بينما أن أسوأ موضوع يمكن اختياره – من وجهة النظر الإسرائيلية – هو موضوع المستوطنات، حيث لا يؤيد إسرائيل فيها عدو ولا صديق.
من ناحيتنا نحن فإن موضوع المستوطنات هو أهم ما يشغل بال الرأى العام العربى فهو الخطر الحقيقى الذى يهدد بتغيير الواقع الجغرافى والتركيبة السكانية وبالتالى ضياع الضفة وغزة كما ضاعت أراضى سنة 1948.
كما أن موضوع المستوطنات هو أكثر الموضوعات التى تجد مساندة عالمية لموقفنا، أما موضوعا القدس والأمن فهما نقطة التقاء الرأى العام اليهودى فى الداخل والخارج. على أى حال انتهت مفاوضات الحكم الذاتى بعد قرابة العام.. وأنتجت عشرات من الوثائق المهمة وتم إقرار عدد منها.. وعند مراجعتها الآن نجد أنها أفضل كثيرًا مما تم التوصل إليه فى أوسلو عام 1994، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه لم يكن هناك أكثر من عشرة آلاف مستوطن فى الضفة الغربية (باستثناء القدس) لأضفنا إلى أحزاننا صفحة جديدة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“