كرويّة الأرض قرآنياً.. بين الأدلة والنصوص (12)

مسألة كروية الأرض هي من الأمور التي تعرّض لها بعض علماء الدين، وناقشوها وفقاً للمسلّمات الدينيّة أو العقليّة التي اعتقدوا بها. في هذا المقال، سأستعرض بعض الآراء في هذه المسألة والتي تدلّ على خلاف كبير بين رجال الدين حول موضوع كرويّة الأرض.

يتطرّق القرآن في بعض آياته لشكل الأرض، فنجد، مثلاً: “الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً..” (سورة البقرة 22)، “وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ..” (سورة الرعد 3)، “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطاً..” (سورة نوح 19)، “وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا..” (سورة النازعات 30)، وغيرها. وتدلّ هذه التعابير، ظاهريّاً على الأقلّ، أنّ الأرض ليست كرويّة من منظور القرآن.

لكن في التراث الديني، بدأ النقاش حول هذا الموضوع بين العلماء أثناء القرن العاشر. قبل ذلك، لا يبدو أنّ علماء الدين – خصوصاً من نلقّبهم بأصحاب الحديث في التقليد السنّي – كانوا مهتمين بهذا الموضوع؛ أقلّه لا نجدهم يتطرّقون إلى هذه المسألة عندما يذكرون الآيات أعلاه ويفسّرونها على ظاهرها من دون نقاش. نرى ذلك مثلاً في ما يقوله الطبري (ت. 923) عن الآية 3 من سورة الرعد: “يقول تعالى ذكره: والله “الَذِي مَدَّ الأرْضَ”، فبسطها طولاً وعرضاً”. إذاً، كلام الطبري هنا وما ينقله عن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في تفسيرهم لهكذا آيات يبدو وكأنّه قاطع في تأكيده على سطحيّة الأرض ولا يدلّ على وجود نقاش حول هذا الأمر بينهم.

أربعة اتّجاهات

لكن خارج تراث أصحاب الحديث، نجد خلافاً كبيراً بين العلماء حول كرويّة الأرض. ويبدو أنّ لهذا الخلاف علاقة بتطوّر علم الفلك في ذلك الوقت. مثلاً، يقول الحاكم الجِشُمي (ت. 1104)، وهو من أهمّ علماء المعتزلة المتأخّرين، في تفسيره للآية 22 من سورة البقرة (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً) ما يلي:

“وذكر أبو علي (الجُبّائي) أنّ قوله “فِرَاشاً” يدلّ على أنّ الأرض مُسَطّحة غير كُرَويّة، وهو مذهب جماعة. وجوّز أبو هاشم (الجُبّائي) كونها كُرَويّة مُسَطّحة. وأبو القاسم (البَلْخي) قطع على أنّها كرويّة. وتوقّف فيها القاضي (عبد الجبّار)”.

إذاً، انقسم النقاش حول كرويّة الأرض إلى أربعة اتّجاهات. الأوّل قال بأنّ الأرض مسطّحة. والثاني أقرّ بأنّها كرويّة. والثالث أصرّ على أنّ بعضها مسطّح وبعضها كروي. والرابع ادّعى بأنّه من المستحيل معرفة ما إذا كانت الأرض مسطّحة أم كرويّة.

ونجد شيئاً شبيهاً في تفسير “مجمع البيان” للعالم الإثني عشري أبو علي الطَبْرِسي (ت. 1154)، حيث ينقل عن الشريف المُرتضى (ت. 1044) ما يلي:

“وقال الشريف الأجلّ المرتضى، قدّس الله روحه: استدلّ أبو علي الجُبّائي بقوله تعالى “الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً”، وفي آية أخرى “بِسَاطاً”، على بطلان ما يقوله المنجّمون من أنّ الأرض كروية الشكل. قال (الشريف المرتضى): وهذا القدر لا يدلّ لأنه يكفي من النعمة علينا أن يكون في الأرض بسائط، ومواضع مفروشة ومسطوحة، وليس يجب أن يكون جميعها كذلك. ومعلوم ضرورةً أن جميع الأرض ليس مسطوحاً مبسوطاً، وإن كان مواضع التصرف فيها بهذه الصفة. والمنجمون لا يدفعون أن يكون في الأرض سطوح يتصرف فيها، ويستقرّ عليها، وإنما يذهبون إلى أنّ جملتها كروية الشكل”.

انقسم النقاش حول كرويّة الأرض إلى أربعة اتّجاهات. الأوّل قال بأنّ الأرض مسطّحة. والثاني أقرّ بأنّها كرويّة. والثالث أصرّ على أنّ بعضها مسطّح وبعضها كروي. والرابع ادّعى بأنّه من المستحيل معرفة ما إذا كانت الأرض مسطّحة أم كرويّة

إذاً، يرفض الشريف المرتضى رأي الجُبّائي أنّ الأرض كلّها مسطّحة، ويوافق ما ذهب إليه علماء الفلك أنّ شكل الأرض الإجمالي هو كروي، مع العلم أنّ صفة بعض المواضع فيها مسطوح كون ذلك نعمة إلهيّة على البشر من أجل أن يعيشوا عليها وينتفعوا بها.

تفسير الرازي

أهمّ وأكثر الردود حدّةً على الرافضين لكرويّة الأرض نجده في تفسير فخر الدين الرازي (ت. 1210). برأيه، ليس هناك أي مجال للشك في كرويّة الأرض، وهو ما يقوله حرفيّاً: “قَدْ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْهَنْدَسِيَّةُ عَلَى أن الْأَرْضَ كُرَةٌ”. وفي ما يلي مقطع من تفسيره “مفاتيح الغيب” – والذي هو من أروع التفاسير للقرآن التي دوّنت في العصر الكلاسيكي – عن الآية 3 من سورة الرعد (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً، وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ):

“أعلم أنّه تعالى لمّا قرّر الدلائل السماويّة أردفها بتقرير الدلائل الأرضيّة، فقال: “وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ”. وأعلم أنّ الاستدلال بخلقه الأرض وأحوالها من وجوهٍ.. الثاني، قال أبو بكرٍ الأصمّ: المدّ هو البسط إلى ما لا يُدرَك منتهاه. فقوله “وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ” يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه، لأنّ الأرض لو كانت أصغر حجماً ممّا هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به. والثالث، قال قومٌ كانت الأرض مدورةً فمدّها ودحا من مكّة من تحت البيت فذهبت كذا وكذا. وقال آخرون: كانت مجتمعةً عند البيت المقدّس فقال لها: اذهبي كذا وكذا. أعلم أنّ هذا القول إنمّا يتمّ إذا قلنا الأرض مسطحة لا كرة. وأصحاب هذا القول احتجوا عليه بقوله: “وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا”، وهذا القول مشكلٌ من وجهين. الأوّل، أنّه ثبت بالدلائل أنّ الأرض كرةٌ فكيف يمكن المكابرة فيه؟ فإن قالوا: وقوله “مَدَّ الأرْضَ” ينافي كونها كرةً فكيف يمكن مدّها؟ قلنا: لا، نسلّم أن الأرض جسمٌ عظيمٌ والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعةٍ منها تُشاهَد كالسطح، والتفاوت الحاصل بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله، ألا ترى أنه قال: “وَالجِبَالَ أَوْتَاداً”، فجعلها أوتاداً مع أنّ العالم من الناس يستقرّون عليها. فكذلك ها هنا..”.

إذاً، يعتبر الرازي أنّ ضخامة الأرض تُعطي الإنطباع أنّها مسطّحة، وذلك من أجل تمكين البشر من العيش عليها والإنتفاع بها، بينما في الحقيقة هي كرة. ويستوقفنا هنا وصفه لمن يرفض كرويّة الأرض على أنّه مكابر، أي رافض للحقيقة. وقوله “ثبت بالدلائل أنّ الأرض كرة” يشير بوضوح إلى أخذه بالدلائل العلميّة والعقليّة قبل الدلائل النصّيّة.

إقرأ على موقع 180  الصين أكبر شريك إقتصادي للعرب.. ماذا بعد؟

البراهين العلمية

وهذا يقودنا إلى إحدى أهمّ الاشكاليّات في النقاش الديني حول كرويّة الأرض. من جهة، نجد علماء (كالرازي والشريف المرتضى) اعتبروا البراهين العلميّة قاطعة في هذا الموضوع، وأنّهم ليسوا بحاجة إلى نصّ (من القرآن أو الحديث) ليثبت ذلك. بلّ، النص يُعاد قراءته وتفسيره في ضوء البراهين العقليّة والعلميّة. ومن جهة أخرى، نجد المُصرّين على أسبقيّة النصّ والذي أدّى ببعض منهم إلى رفض كرويّة الأرض، كما نجد مثلاً عند الإمام القرطبي (ت. 1273)، في تفسيره “الجامع لأحكام القرآن”، حيث يقول عن الآية 3 من سورة الرعد (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ): “في هذه الآية ردّ على من زعم أنّ الأرض كالكرة”.

إحدى أهمّ الاشكاليّات في النقاش الديني حول كرويّة الأرض أن البعض (كالرازي والشريف المرتضى) اعتبروا البراهين العلميّة قاطعة في هذا الموضوع.. وآخرون أصروا على أسبقيّة النصّ ورفضوا كرويّة الأرض (مثل الإمام القرطبي)

وهناك من تقبّل كرويّة الأرض بشرط وجود النصّ وأسبقيّته على الإكتشافات العلميّة والعقليّة، كما نجد مثلاً عند ابن حزم الأندلسي (ت. 1064)، وابن تيمية (ت. 1328)، وابن قيّم الجوزيّة (ت. 1350). يقول ابن حزم، مثلاً، في كتابه “الفصل في الملل والنحل”:

“وذلك أنهم قالوا إن البراهين قد صحّت بأن الأرض كروية والعامّة تقول غير ذلك. وجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن أحداً من أئمّة المسلمين المستحقّين لإسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض ولا يُحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة. بل البراهين من القرآن والسّنة قد جاءت بتكويرها. قال الله عزّ وجلّ: “يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ” (سورة الزمر 5)، وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض”.

لكن علينا أن نتوقّف ونسأل لماذا تجاهل أمثال ابن حزم وابن تيمية الآيات التي تتحدّث بوضوح عن سطحيّة الأرض؟ الجواب هو أنّهم عجزوا عن ردّ الأدلّة العلميّة والعقليّة، لذلك كان همّهم إيجاد أيّ نصّ يمكن أن يُبرهنوا من خلاله أنّ قبولهم لها أساسه أوّلاً تعاليم الله وليس العلم والعقل وحده.

في الخلاصة، الجدل في موضوع كرويّة الأرض هو كأي موضوع آخر عالجه علماء الدين في العصر الكلاسيكي. قبولهم أو رفضهم لها كان نتيجة للمسلّمات التي اعتقدوا بها والتي شكّلت أسس فكرهم الديني.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  إيران ومعادلات الشرق الأوسط.. "الأزمات" تتحول إلى "فرص"