

وسواء كنّا داخل الوطن أم خارجه، لم نسلم، في مواجهتنا لتلك الأحداث، من الشعور بالنفي الروحي والاغتراب الداخلي. بين شارع انفجرت فيه الحناجر ثم انطفأت ومرفأ عاصمة تلاشى معه ما تبقى من الأمل؛ لم يكن آنذاك الصمت خيارًا، بل ضرورة مفروضة. كأن كاتم الصوت – في بعده الرمزي – قد أُسدل على الحناجر والأفكار معًا، فصار كاتم الأسئلة المؤجلة، تلك التي لم تجد لها سبيلًا في وجود شبح الخطر الداهم.
رواية «ميكروفون كاتم صوت» أيقظت عنوة قصصاً أليمة دفَنها تتابعُ الأحداث القاسية.. وهكذا كانت العودة إلى جرح لم يلتئم لتكون مآلًا لمواجهة أشباح الماضي. وبذلك تحوّلت الرواية إلى فعل سردي يُعاد به تشكيل الذات وسط ضجيج داخلي وخارجي كُتِمَ قسرًا وراح يعود كطفرات غير مفهومة في ميكانيزمات الجهاز النفسي مربكة إيقاعها ومعيقة مسارها. وبالتالي تجاوزت الرواية بعدها الزمني لتنكشف عبر هذه الآلية عوالم كما لم تُرَ من قبل . آليةٌ، هي أشبه بعملية تنقيب جيولوجي تصبح معها الكلمة مرآة، والعبارة أداة حفر في العمق غير المرئي.
لذا، رواية «ميكروفون كاتم صوت» هي في البدء حكاية وتأريخ لانفجار وطن وتشرذم إنسان، عندما يتقاطع التأزم السياسي مع الانهيار الاقتصادي، ويواكبهما عزل وتهميش.
في رمزيتها، هي صدى لإنسان يبحث عن صوته في زمن تصاعدت فيه أصوات احتلّت الوعي وسجنته في معايير مغلقة. وهكذا الميكروفون بدل أن يكون وسيلة لإيصال الصوت، يتحول إلى أداة للضبط والرقابة بل للكتم والحظر.
وفي قراءة أعمق، هي تشريح سردي لآليات السلطة الحديثة، واستعارة عن العنف الذي يُمارس على المواطن باسم الإعلام والخطاب والتمثيل. فالصوت ليس مجرد طفيلي يشغل المجال السمعي، بل هو أداة لإنتاج شرعية وجوده. ومن يحتكر الميكروفون يملك القدرة على توجيه المعنى وتأطير الحدث. ومن هنا، فإن عنوان الرواية نفسه ـ “ميكروفون كاتم صوت” ـ يحمل تناقضًا دلاليًا يعكس مفارقة أشكال السلطة الحديثة التي تتحدث باسم الناس لتسكتهم. أكثر من ذلك، فإن حامل الميكروفون (والد سلطان في الرواية)، مأجورٌ لعمله، يؤديه على أكمل وجه دون مساءلة أو تمييز فيتموضع برغم بساطة شخصيته في حلقة من سلسلة تعدّ الخطاب سلفًا لإعادة إنتاج الرواية الرسمية. يجعل ذلك من الميكروفون تجسيدًا حديثًا لفكرة البانوبتيكون (Panopticon) التي طرحها بنثام (entham) وهو سجن دائري، يُمكن للسجّان فيه أن يُراقب الجميع دون أن يُرى، فينضبط الجميع خوفًا من المراقبة الدائمة. إذ يقوم الميكروفون بإشاعة أخبار معدّة، جاهزة للتسويق ومستولية على الفضاء السمعي والذهني في ظروف معقدة مُهيّأة للهشاشة وبالتالي لاستنفاذ أدوات السيطرة والرقابة.
إذا كانت الرواية تتحدث عن كتم صوت الفرد، فإن المقبرة، في تأويل أعمق، هي كاتم صوت جماعي، مكان تُدفن فيه كذلك السرديات البديلة والحكايات المرفوضة. فتتحول إلى مساحة للكشف وللتأريخ من الأسفل، وللتأمل في ما يعني أن تكون “بلا صوت” في مجتمع لا يريد أن يستمع
الميكروفون إذًا أداة تُستخدم باسم السلطة أي النظام، الوطن، الأخلاق، أو الحقيقة الواحدة. يُتهم بالشغب وبالفوضى من يحيد به عن غايته الأولى خارج نطاقه المشروع كما حصل مع سلطان لدى استعماله إياّه خارج الوظيفة المحددة له.
والأبواق تشيع أمجاد السلطة وتضحياتها. فمن ذا الذي يجرؤ على التكلم في حضرة الموت وأمام محرابه المقدس. هنا تتحول القدسية إلى غلاف خانق يخمد التعبير ويُكرّس الصمت كطقس ولاء. وعليه، فإن كل صوت مختلف يُنعت بالشذوذ ويُتهم بالخيانة.
وهكذا تتبدى رواية «ميكروفون كاتم صوت» لكأنها تكسر هذا الصمت وتتحول مضادًا للخطاب القائم بل تقف كمنصة تُعيد الاعتبار للمهمّش عبر هذه المعادلة مانحة شرعية لمن يتكلم في وجهه، أي في وجه الميكروفون كـ «بانوبتيكون صوتي» أو كأداة ترى ولا تُرى ساعية لاستيعاب واستبطان الخطاب.
وفي هذا الجو المثقل، لا يبقى سوى الاحتماء بالأمل وبالحلم. فالهجرة، في نظر سلطان، نافذة تطلّ على ضوء بعيد عن ضيق المكان وعبء الزمان في محاولة أخيرة قبل أن يبتلعه الصمت والإمتثال. لكنه كان يدرك بمرارة صعوبة النجاة، فمن ينجو يصل منفيًا عن ذاته ويعيش في هوامش المدن غريبًا. أما من لم يهاجر، فيعيش منفيًا في وطنه، مخنوقًا بالصمت وغريبًا بين أهله. هكذا، تصير الهجرة في الرواية قدرًا مزدوجًا: إما الغرق في البحر أو الغرق في متاهات الانهيار.
وفي انتظار الهجرة، يُصارع سلطان الفقر والعار الطبقي معًا. الفقر يُفرض عليه كوصمة لا تُمحى. من عائلته الوضيعة ينمو الخجل الطبقي كعنف رمزي، بحسب بورديو (Bourdieu) عنفٌ يمارسه المجتمع من خلال تصنيفات غير مرئية لكنها فعّالة. فالمجتمعات تُبقي على تماسكها الطبقي من خلال ما يُعرف بـ”الإنغلاق الاجتماعي” (social closure)، حسب ماكس فيبر، أي منع التداخل بين الفئات عبر أدوات ناعمة كالثقافة، الذوق، اللغة، وحتى المشاعر. وحين يزور سلطان صديقه لوركا، وهو من عائلة ميسورة، نرى أن الفرق المادي ليس وحده العلامة الفارقة؛ هناك حاجز غير مرئي يُذكّره أنه دخيل وزائر مؤقت في عالم لا ينتمي إليه. وأبلغ مثال على هذا الإنغلاق الإجتماعي هو علاقته بوداد التي لا تشبهه طبقيًا ولا لغويًا ولا يملكان قواعد سلوك مشتركة.
وفي حين يحاول سلطان الخروج من بؤسه بتسلق السلّم الاجتماعي، إلا أنه وبرغم حصوله على شهادة محاسبة، لم يجد عملًا وحبه لوداد لم يجد له ارتكازًا، فيحاول أن يكتب رواية. لكن ذلك لا يُخرجه من قفصه، فالمجال الثقافي، ليس فضاءً حرًا دائماً، وفقاً لبورديو، بل مجالًا محكومًا برموز محددة: من قرأ، من نشر، من يعرف من؟ سلطان لا يملك المفاتيح فيسقط مشروعه قبل أن يُولد لأنه خارج هذه المعادلة الرمزية للنجاح.
أما وداد التي يحبّها سلطان فهي ليست مجرد إمرأة؛ إنها صورة مُجسدة لطبقة عليا، مرغوبة ومحرّمة، كنافذة تُطل على حياة كان يتمنى لو وُلد فيها.
هذان المحوران، الفتاة التي يُحبها، أو اللغة التي يُحاول امتلاكها، كلاهما يمثلان بوابات مغلقة أمام سلطان، الأولى حاجبة للحب، والأخرى حاجبة للاعتراف. وبناء على ذلك يجد في المقبرة فضاء يمكن أن يحتويه وأن يستقبله دون أعراف ودون أحكام. فماذا تمثل المقبرة في روايتنا هذه؟
في العادة، تُفهم المقبرة كمكان للغياب والانتهاء، لكن في الرواية ـ كما في بعض السياقات الثقافية ـ تتحوّل إلى ملتقى للهامشيين.
سلطان بوجوده بين القبور يعيش في الهامش، لا صوت له ولا مستقبل أمامه. مثله، تتقاطع حياة شبان آخرين في فضاء ميت يُوفّر لهم مساحة للالتقاء والتفكير أكثر مما تسمح المدينة. (قاسم في بداية الرواية ومن ثم حسن). إذ حين تُقصى لا تملك إلا أن تلجأ إلى الأماكن الصامتة. محمد طرزي يُجيد تصويرالأصوات المبتورة، والتوترات الخفية التي تحكم الحياة في هذه الثغرات.
وإذا كانت الرواية تتحدث عن كتم صوت الفرد، فإن المقبرة، في تأويل أعمق، هي كاتم صوت جماعي، مكان تُدفن فيه كذلك السرديات البديلة والحكايات المرفوضة. فتتحول إلى مساحة للكشف وللتأريخ من الأسفل، وللتأمل في ما يعني أن تكون “بلا صوت” في مجتمع لا يريد أن يستمع.
أجد في رواية محمد طرزي بارقة أمل متألق. إنه الصوت، ولو خفت أو انكسر، لا يموت. يتراجع أحيانًا، لكنه يبقى كامناً يظهر مجددًا ولو من العدم. كذلك الشخصيات الهامشية التي رسمها الكاتب تختزن قدرة على الصمود، بل على ابتكار أشكال بديلة للحياة حين تنهار المؤسسات وتغيب الدولة
في «ميكروفون كاتم صوت»، تبدو الشخصيات الهامشية في الظاهر سلبية مسحوقة تحت وطأة الفقر والتهميش. لكنها برغم عجزها وهشاشتها تحتفظ بخصوصية جذّابة. وبرغم ازدواجيتها تتحوّل إلى كائنات تُعيد هندسة الممكن من خلال الفجوات حيث لا مؤسسات ولا أعين للسلطة. فالرفيق حسن وعفاف (أو ريتا) هما ممن يُقدّمون المساعدة حين تنهار الدولة؛ حين تتفكك الأسرة؛ حين يسقط القانون في فخ العجز أو التواطؤ. ففي عالم يرفع فيه الميكروفون صوت الأقوياء، تقوم هذه الشخصيات بـمساعدة من لا صوت لهم. نعم، يثيرون الشك والتحفظ لمسلكية ملتبسة لكنهم يَعبُرون من دون تكلف من الأسفل إلى الأسمى. هناك أبو نبيل وأبو الغضب والمتسولات في المقبرة، لا يصنعون ثورة، لكنهم يحرسون بقايا الإنسانية.
وسط هذا الخراب، تنتهي القصة في المقبرة بظهور حب غير تقليدي. فتاةٌ تُشبه الصمت، لكنها تمردٌ خفي، هي ميساء، أخت صديقه الذي استُشهد، من دون أن ترفع صوتها، تُطلق هذه الفتاة العنان لحب لا يطلب إذنًا طبقيًا فيكتسي صوت مقاومة ضد العدم.
وبرغم كل ما تُحقّقه الرواية من عمق وإثارة ومتعة، إلا أن هذا الإنجاز بتكريس البطولة المطلقة لسلطان يُضعف التوازن بين الشخصيات، وتفوّت ربما بذلك فرصة لمزيد من التعقيد والتعدد الفني في النسيج الروائي. قد يكون ثغرة بنيوية نألفها لكثافة المعاني والمواقف وهي حتمًا خيار من الروائي للغنى الذي تحمله في جوانب متعددة. لكن هذه الشخصيات (مثل الفتاة، الأب، الأم، الأصدقاء) تظهر كـرمز أو إطار أكثر من كونها كائنات روائية متكاملة. وداد برغم رمزيتها الطبقية، تبقى شخصية منغلقة في دورها، تتكرر في الأدب العربي كشخصية «المرأة التي لا تُنال» دون تفاصيل نفسية إشكالية أو تحولات. أما الأخت والأم فتظهران بوصفهما أدوات في تشكيل عقدة البطل دون أن تُمنحا مساحة خاصة تعكس تعقيدا داخليًا.
هذه الشخصيات المنكفئة ذات الدور الثانوي تعيدني إلى سؤال محوري: هل يُعدّ الصمت حيادًا أو انكفاء في صفحات “ميكروفون كاتم صوت”؟ وما حالنا اليوم ممّا جرى بالأمس القريب؟ فارتفاع الأصوات في صناديق الإقتراع، على محدوديته، يُعيدنا إلى ميكانيزم هذا الصمت المنظَّم. كيف نُمارس حقّنا في التعبير، ليس فقط كالتزام ديموقراطي، بل كفعل مقاوم؟ وكيف نمنع الخطاب الأحادي من أن يقصينا، مرة بعد أخرى، كمواطنين؟
وبرغم كل ما في المشهد من قلق وغموض، أجد في رواية محمد طرزي بارقة أمل متألق. إنه الصوت، ولو خفت أو انكسر، لا يموت. يتراجع أحيانًا، لكنه يبقى كامناً يظهر مجددًا ولو من العدم. كذلك الشخصيات الهامشية التي رسمها الكاتب – برغم هشاشتها الظاهرة – تختزن قدرة على الصمود، بل على ابتكار أشكال بديلة للحياة حين تنهار المؤسسات وتغيب الدولة. فالتغيير الحقيقي لا يأتي من الأعلى، بل يولد في الهامش ومن الأصوات المنسية. من هناك، من عمق التجربة المقموعَة، يمكن للصوت أن يعود ليقول: ما زلنا هنا، نحاول، نحب، ونكتب.