في “غيبة مي”.. سردية نجوى بركات أو نحنُ بعد حين!

في روايتها "غيبة مي"، تُقدّم الكاتبة نجوى بركات عملاً مركبًا يتداخل فيه النفسي بالاجتماعي، والذاتي بالعام، لتجعل من "مي" مرآةً لواقع معقد تعيشه النساء في علاقتهن بأجسادهن، بالرجال، بالمحيط العائلي والمجتمعي. ليست "مي" بطلة غائبة حاضرة فحسب، بل هي نحن بعد حين؛ هي تجسيد لما نخشاه وننتظره في آن: الشيخوخة، فقدان الذاكرة، الغربة الزمانية والتلاشي في أعين من أحبّونا.

تعتمد الكاتبة اللبنانية المخضرمة نجوى بركات في هذه الرواية أسلوب السرد الواقعي وملامسة الواقع اليومي بتفاصيله وتعقيداته، وتُركّز على تصوير الحياة كما هي، بلا تجميل أو افتعال.

هذا النمط من السرد يرتكز على شخصيات يُمكن التعاطف معها لأنها تشبهنا، وتعيش ظروفًا نعرفها أو نسمع عنها. لا يبحث السرد الواقعي عن البطولة أو الحدث الاستثنائي بقدر ما ينشغل بكشف البُنى الخفية التي تحكم العلاقات الإجتماعية، والضغوط النفسية التي تواجه الأفراد. إنّه سرد يلتقط الألم الخافت، الفرح العابر والتبدد التدريجي للأحلام، في محاولة لفهم الإنسان وسط عالم متغير ومتطلب.

***

قرأتُ رواية “غيبة مي” (صادرة عن دار الآداب) ببطء وروية متعمدين، وحين عادت “مي” الشابة لملاقاة نسختها المتقدمة في السّن لم أستطع ترك الكتاب من بين يديّ.

بدأت أظن أن نجوى بركات تريد إخبارنا بقصة النرجسي السام لتنزعه من حياتها ذلك أن محاولة قتله في الرواية لم تنجح.

ثمّة جفاف عاطفي موجع ترتديه روح “مي” حتى لا نعرف اسمي ولديها التوأمين وأظنها لا تعرف أحدهما من الآخر.

العلاقات العاطفية معطوبة بقدر ما تسبّب لها الحب بالأذية وأغرقها وأرداها حتى أصبحت بلا روح.

“غيبة مي” ليست فقط قصة إمرأة تقدّم بها السن، بل مرآة صادقة لكلّ منّا. في قراءتنا لها لا نُطالع الآخر، بل نلمح ذواتنا في ثناياها. نرتعب من الغياب، ونتأمل ما قد نؤول إليه.

هذه الرواية لامستني شخصيًا، لأنها تتحدث عني، عنكِ، عنّا جميعًا في مستقبل قد لا يكون بعيدًا حين نصبح نحن “مي”، بضعفها، بصمتها، وبقوة حضورها أيضًا. ولعل الأجدر كان أن تُسمّى “عودة مي”، بعدما غابت في جسد أنهكه الحب وسحب منه ماء الحياة، حتى لم يعد يقوى على معايشة قطة. ربما لهذا السبب نفرت “مي” من القطة الزائرة “فريدا”، التي حملت اسمًا استثنائيًا في آخر حياتها، وبعد طول عناء وكأنها كانت تتنكر لحياتها المحتضرة ذاتها.

***

في الفصل الأول، تتطرق الرواية إلى العلاقة بالمدينة والعمات والأب والأم التي ماتت من المرض. ثمة وصف للبيئة المجتمعية ولا مناص من التعريج على العامل السياسي المتفاقم من سرقة العصر وانفجار المرفأ المبين، وهي مرتكزات هامة لا يمكن تجاهلها كأرضية للرواية الثامنة في بلد إسمه لبنان وعاصمته بيروت التي تشكل رواية وحدها بجمالها وقبحها، بتناقضاتها ومشتركاتها.

نص نجوى بركات يبدأ بوصف دقيق لحياة إمرأة مُسنّة، تتقاطع ملامحها مع ملامح “مي” الغائبة. التوصيف المسهب لا يرصد فقط الجسد المنهك، بل يُعرّي الخوف من الزوال والخرف. الشيخوخة هنا ليست جسدية فقط، بل رمزية، تُشير إلى تآكل الذات تحت وطأة التجربة والخذلان. تبدو اللغة وكأنها تسعى لتثبيت صورة “مي” ضد النسيان: “هذه هي، وإن اختفت”.

***

في الفصل الثاني، نتعرف على مسار “مي” العاطفي من خلال علاقتها برجل نرجسي. علاقة غير متكافئة دفعتها نحو الحافة، نحو المصحة النفسية. يُقدّم النص الحب مساحةً للخذلان، ولا سيما في مجتمع يُعيد إنتاج تبعية المرأة عبر خطاب “الفارس المُنقذ” الذي يتحول إلى جلاد ناعم.

الرجل ليس مجرد حبيب، بل كيان مسيطر، مهووس بالذات، يجيد التلاعب والإيحاء. يظهر كإعصار يعد بالحب، لكنه لا يمنح سوى الفتات، ثم ينسحب فجأة، ملقيًا باللوم على “مي”، كما يفعل النرجسيون البارعون في تقمّص دور الضحية.

تتهاوى “مي” أمام حضوره الطاغي، وتُصبح أسيرة انتظار لا ينتهي. تهرب من ذاتها نحو وهم الحب، ومع تصاعد التوتر، تتكسر تدريجيًا حتى تغيب نفسيًا ثم جسديًا. تختفي “مي” عن العالم وعن ذاتها، وكأنها تحتمي من الألم الغامر الذي جلبه لها هذا الحب.

***

تكشف لنا نجوى بركات كيف يمكن للحب أن يتحول إلى وسيلة للهيمنة. علاقة “مي” بالرجل لم تكن حوارًا، بل مونولوجًا لأناه المتضخمة. هي قصة حب بلا صوت أو كيان؛ قصةٌ تُختزل فيها المرأة إلى مجرد ظلّ، إلى مجرد صدى.

الرواية تقترب في عمقها من الأدب العيادي. الشخصية النرجسية في الرواية تطابق ما يُقدّمه علم النفس عن اضطراب الشخصية النرجسية: الجاذبية، التلاعب، الغرور، انعدام التعاطف، ثم التخلي المفاجئ. تقارب ذكي بين الأدب وعلم النفس، من دون افتعال.

هل انتبه أحدكم إلى أنها لم تخلع على حبيبها – قاتلها وقاتل جنينها إسماً؟ هذا الحبيب لا نتعرف عليه إلا في آخر الرواية مثل القطة: تأليف وإخراج جهاد سليمان.

***

نجوى بركات ليست بحاجة إلى شهادة في أسلوبها؛ هي الكاتبة التي تُدرّس الكتابة، وتُعلّم اللغة كمن يُعلّم الحب. وأنا، برغم امتناعي الطويل عن تظليل الجمل في الكتب عادةً، كي لا تسكن ذاكرتي وتسرق مني لغتي، وجدتني أستثني روايتها. هناك جملة واحدة فقط، شعرت أنها كُتبت لي. اخترقتني دون استئذان، واستقرت في أعماقي لا كاقتباس، بل كنداء خفي، أعاد تشكيل لغتي، ودفعني لأمسك القلم الرصاص.. وأسطر الكثير من الجمل.

إقرأ على موقع 180  المقاومة المأزومة بين الطوائفيات وقوى التغيير

في الفصل الثالث والأخير يتحول يوسف الناطور إلى روائي يشهد من جهته وقائع وتفاصيل محبته لـ”مي” التي عاملته كبني آدم دون تعليق وصمة على ظهره كسائر اللبنانيين.

تركت نجوى بركت الكلام ليوسف حتى يصف مشاعر عامل سوري في بيروت ويكتب بطريقة جميلة فقد يكون متعلمًا وصاحب شهادة عالية أليس هذا هو حال معظم أولئك الذين قذفتهم الحرب السورية اللعينة إلى بيروت؟

رواية “غيبة مي” لا تُقرأ من الخارج، بل تُعاش من الداخل. في كل سطر، تشعر أن الكاتبة لا تسرد بقدر ما تهمس، تفضح، تعُري، ثم تُضمّد. هذه ليست مجرد قصة عن امرأة، بل عن هشاشتنا جميعًا في مواجهة الحب والخذلان، في مواجهة الشيخوخة والذاكرة، وفي مواجهة ما يفعله العالم فينا حين نغفل لحظة عن ذواتنا ولا نُصغي لأصواتنا الداخلية.

Print Friendly, PDF & Email
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  اغتيال ابي محمد المصري... الغاز اميركية-اسرائيلية في توقيت مريب