واشنطن وطهران على خلاف منذ 45 سنة (تاريخ تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران بعد الثورة التي أطاحت بالشاه في عام 1979). وطوال كل تلك السنوات، كان للولايات المتحدة مواقف متشددة تجاه إيران، أبرزها: عندما دعمت؛ بكل قوتها ونفوذها؛ صدّام حسين أثناء الحرب العراقية-الإيرانية. وعندما ظلَّت تساعد إسرائيل في شن هجمات إلكترونية مدمرة على البنية التحتية الإيرانية لتخصيب اليورانيوم، حتى بعد أن وقَّعت الاتفاق النووي عام 2015، في عهد باراك أوباما. بعد ذلك، ولكي لا يتفوق عليه أحد من أسلافه، انسحب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي، وأمر باغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الجنرال قاسم سُليماني، وفرض حزمة كبيرة من العقوبات المشددة على النظام الإيراني.
وقد ردَّت إيران على كل هذه الإجراءات وغيرها من خلال دعم نظام بشار الأسد في سوريا، والتقرب أكثر من روسيا والصين، وتعزيز قوى محور المقاومة في الشرق الأوسط (في لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين).
عندما يصبح الرادع النووي أداة سلام
من المرجح جداً أن تستمر وتتفاقم حرب الظلّ بين إسرائيل وإيران لفترة طويلة مقبلة (…)، لكن هناك طريقة واضحة ومباشرة للحد من التصعيد والحؤول دون تفجر الوضع الأمني في الشرق الأوسط (وربما في العالم كله)، وهي “أن تحصل إيران على رادع نووي خاص بها”، بحسب وجهة نظر الراحل كينيث والتز، أحد منظري العلاقات الدولية البارزين.
ففي آخر مقال منشور له، قال والتز: “إن امتلاك إيران ترسانة نووية خاصة بها سيُقلّل من مخاوفها الأمنية، ويمنحها سبباً أقل لإثارة المشاكل للآخرين، وفي الوقت نفسه سيجبر منافسيها الإقليميين على الامتناع عن استخدام القوة ضدها بطرق قد تؤدي عن غير قصد إلى حرب نووية” (…).
وكان والتز قد عرض وجهة نظره هذه في دراسة مثيرة للجدل، نشرها في عام 1981، واعتمد فيها على نظرية الردع النووي. بدأ والتز بالافتراض الواقعي المألوف الذي يقول إن الدول التي تعيش في حالة من الفوضى تهتم في المقام الأول بالأمن. وفي عالم خالٍ من الأسلحة النووية، كثيراً ما تؤدي مثل هذه المخاوف إلى سوء التقدير، واتباع سلوكيات محفوفة بالمخاطر، وبالتالي وقوع الحرب. لكن الأسلحة النووية غيَّرت هذا الوضع، لأنها جعلت حتى أكثر قادة العالم طموحاً وعدوانية ينصاع للتهديد الذي تُشكّله قوتها التدميرية الهائلة. لقد رأى والتز أن الردع النووي هو الضمان الأمني النهائي: لن يحاول أي زعيم عاقل غزو أو الإطاحة بمنافس مسلح نووياً لأن القيام بذلك سيؤدي حتماً إلى المخاطرة بهجوم نووي. وعندئذ لن يكون لأي مكاسب سياسية أي قيمة تُذكر (…). مع وجود الردع النووي لا مجال لـ”سوء التقدير”. فأي شخص يتمتع بالحد الأدنى من الذكاء يفهم تداعيات أي هجوم نووي وما ستؤول إليه الأمور. والدول التي تتمتع بقدرة آمنة على توجيه ضربة ثانية لن تقلق بشأن بقائها، لكن المنافسة بينها ستبقى مقيدة بسبب الخوف المتبادل.
كينيث والتز: الطريقة الأكثر مباشرة لتحقيق الاستقرار في المنطقة هي أن تحصل إيران على رادع نووي خاص بها
بالطبع، والتز لا يفترض أن الردع النووي يقضي على كل مصادر المنافسة الأمنية. كذلك هو لم يزعم أن كل دولة ستكون في وضع أفضل إذا امتلكت قنبلة نووية، أو أن الانتشار السريع للأسلحة النووية سيكون أمراً جيداً بالنسبة للنظام الدولي. وجهة نظره هي “أن الانتشار البطيء للأسلحة النووية قد يكون مفيداً في بعض السياقات، بل وربما يكون أفضل من بذل جهود شاملة لمنعه”. كان ولتز يعتقد أن الخوف المتبادل من التصعيد هو ما ساعد الأميركيين والسوفييت في تجنب صدام نووي مباشر بينهما خلال الحرب الباردة، ما أدّى بدوره إلى احتواء التصعيد بين الهند وباكستان، “لذا سيكون له آثار مثبطة مماثلة في أماكن أخرى، بما في ذلك الشرق الأوسط الذي مزقته الحروب”.
اجتذبت وجهة نظر والتز الكثير من الانتقادات، وأدَّت دراسته في النهاية إلى تبادل موسع ومفيد مع الأستاذ في جامعة “ستانفورد” الدكتور سكوت ساجان. فقد حذَّر المتشككون من أن القوى النووية الجديدة قد يقودها زعماء غير عقلانيين أو مهووسون لا يمكن ردعهم، هذا على افتراض زعماء الدول الحائزة للأسلحة النووية هم الأكثر عقلانية وحذرا! وأعرب آخرون عن قلقهم من أن القوى النووية الجديدة قد لا تكون مؤهلة للتعامل مع التدابير الأمنية المعقدة والإجراءات التي تتطلبها القيادة الحكيمة من أجل ضمان إبقاء الأوضاع تحت السيطرة (…). وادعى البعض أن القوى النووية الجديدة قد تهدّد باستخدام النووي لابتزاز الآخرين أو كدرع للعدوان، على الرغم من أن أياً من القوى النووية الحالية لم تفعل ذلك بنجاح على الإطلاق. وتوقع منتقدون آخرون أن امتلاك إيران للطاقة النووية، مثلاً، من شأنه أن يدفع بعض جيرانها إلى أن يحذوا حذوها، برغم أن الأدلة على “سلاسل الانتشار النووي” السابقة كانت مختلطة في أفضل تقدير.
من حفر حفرة لأخيه وقع فيها
لم تفكر حكومة الولايات المتحدة قط في تبني موقف والتز، وبالتأكيد ليس فيما يتعلق بدول مثل إيران. بل على العكس من ذلك، حاولت دائماً ثني الدول الأخرى عن تطوير ترساناتها النووية، وقد بذلت جهداً إضافياً لمنع إيران من القيام بذلك. وأجمع الرؤساء الديموقراطيون والجمهوريون؛ على حد سواء؛ مراراً وتكراراً، على أن كل الخيارات مطروحة على الطاولة “إن حاولت إيران تصنيع قنبلة فعلية”، وفرضوا عقوبات اقتصادية صارمة على نحو متزايد في محاولة فاشلة في معظمها لإقناع طهران بالتخلي عن برنامج التخصيب. وفي نهاية المطاف، تفاوضت إدارة أوباما على اتفاق (خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015) أدى إلى تقليص قدرة إيران على التخصيب بشكل كبير، وخفض مخزونها من المواد النووية، ووسَّع نطاق مراقبة الأنشطة النووية الإيرانية المتبقية. لكن، وفي خطأ استراتيجي مذهل، تخلى ترامب عن الصفقة في عام 2018. والنتيجة؟ بدأت إيران في تخصيب اليورانيوم إلى مستويات أعلى، وباتت الآن أقرب إلى امتلاك قنبلة نووية من أي وقت مضى.
وبصرف النظر عن الاتفاق النووي لعام 2015، بذلت الولايات المتحدة (ومعها إسرائيل) كل ما في وسعها لإقناع طهران بأنها لن تكون آمنة من دون رادعها الخاص: موَّلت جهود “تعزيز الديموقراطية” الموجهة ضد الجمهورية الإسلامية، بما في ذلك تمويل المعارضة الإيرانية في المنفى. ورفضت عدة محاولات إيرانية لتحسين العلاقات المشتركة. وافتعلت أكثر من اشتباك مع القوات البحرية الإيرانية في الخليج العربي. واغتالت عمداً مسؤولاً إيرانياً كبيراً. ونفَّذت مجموعة من الأنشطة السرّية داخل إيران. ودعمت علناً تشكيل تحالف مناهض لإيران في المنطقة. كما أنها لم تسع لبناء أي نوع من العلاقات الدبلوماسية مع طهران (على عكس روسيا والصين ومعظم حلفاء أميركا).
وأياً كان رأي المرء في النظام الإيراني ــ وهناك الكثير ممن لا يعجبهم هذا النظام ــ فإن هذه الأفعال والتدابير الأميركية وغيرها تزيد بلا أدنى شك من اهتمام النظام الإيراني بالحصول على الحماية الرادعة ذاتها التي تتمتع بها الآن تسع دول أخرى (على الأقل)، منها إسرائيل وباكستان وكوريا الشمالية.
السؤال الذي يطرح نفسه بعد كل هذه الوقائع هو: لماذا لم تصل إيران؛ فعلياً؛ إلى القنبلة النووية حتى الآن؟
لا أحد يعرف الإجابة.
أحد الاحتمالات هو أن المرشد الأعلى، آية الله السيد علي خامنئي، يعتقد حقاً أن الأسلحة النووية تتعارض مع التعاليم الإسلامية، ويؤمن أن تجاوز هذا الخط سيكون خطأ من الناحية الأخلاقية.
انسحاب ترامب من الاتفاق النووي كان خطأً استراتيجياً كبيراً: إيران تخصّب اليورانيوم بمستويات أعلى، وباتت الآن أقرب إلى امتلاك قنبلة نووية من أي وقت مضى
لا أضع الكثير من الاعتبارات في هذا التفسير بنفسي، لكن لا يمكنني استبعاده تماماً. ومن الممكن أيضاً أن قادة إيران لا يشعرون بالقلق إزاء هجوم أو غزو أميركي مباشر (مهما كان ما قد يقولونه في العلن)، وبخاصة في ضوء الجهود الكارثية التي تبذلها أميركا لتغيير النظام في العراق وأفغانستان وليبيا وفي أماكن أخرى. وربما يدرك الإيرانيون أنه لا يوجد رئيس أميركي يرغب في إعادة إحياء تلك التجارب، وخاصة ضد دولة تبلغ مساحتها ما يقرب من أربعة أضعاف مساحة العراق وضعف عدد سكان العراق. إن الولايات المتحدة خصم خطير لإيران ولكنها لا تشكل تهديداً وجودياً، لذلك ليست هناك حاجة للسباق السريع نحو القنبلة النووية. وقد يتم ردع طهران أيضاً عن طريق التهديد بحرب وقائية، طالما أنه من المرجح أن يتم اكتشاف محاولة لبناء سلاح فعَّال ويمكن أن يؤدي بسهولة إلى قيام الولايات المتحدة أو إسرائيل (أو كليهما) بمهاجمة البنية التحتية النووية التي ضحَّت إيران بالكثير من أجل إنشائها. إذا لم تكن هناك حاجة ملحة ولم تكن الظروف مواتية، فمن المنطقي أكثر أن تبقى إيران على هذا الجانب من عتبة الانتشار النووي.
فإذا أرادت الولايات المتحدة إبقاء الأمور على هذا النحو، فعليها أن تجمع بين تحذيراتها بشأن العواقب المحتملة لمحاولة تجاوز العتبة النووية مع ضمانات بأن إيران لن تتعرض لهجوم إذا قررت عدم إنتاج أسلحة نووية. إن وقف “حرب الظلّ” بين إسرائيل وإيران من شأنه أن يساعد في الحد من التصعيد أيضاً، على الرغم من أنه من الصعب تخيل أن تقبل حكومة بنيامين نتنياهو بهذا المسار، كما من الصعب التسليم بأن إدارة الرئيس جو بايدن يمكن أن تمارس ضغوطاً جدّية عليه لكي يقبل!
إن أكثر ما يزعجني هو أنه إذا استمر المستوى الحالي من العداء، فمن الصعب تصديق أن إيران لن تقرر في نهاية المطاف أنها في حاجة إلى رادع نووي خاص بها، وعلى كل شخص أن يخمّن ما قد يحدث بعد ذلك! قد تشتعل حرب أخرى مكلفة في الشرق الأوسط، وهذا آخر ما يتمناه أي شخص. أضف إلى ذلك أنه في حال نجحت إيران في صنع قنبلتها النووية فإنها ستدفع دولاً أخرى إلى أن تحذو حذوها، السعودية وتركيا على وجه الخصوص.
لكن خمّن ماذا؟ وقد يكشف ذلك أيضاً أن والتز كان على حق طوال الوقت، وأن التوازن النووي في الشرق الأوسط من شأنه أن يحث الدول المتخاصمة على نحو دائم على تخفيف العداوة في ما بينها واختيار التعايش السلمي. ولكن، إذا ما أردت أن أكون صادقاً تماماً، فسأقول إن هذه واحدة من تجارب العلوم الاجتماعية التي أفضل عدم الخوض فيها.
– ترجمة بتصرف عن “فورين بوليسي“.
(*) ستيف م. والت، كاتب في مجلة “فورين بوليسي”، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد.