

رولان بارت، في تحليله للخطاب الأسطوري، يفكّك آلية اشتغال “الرمز” حين يُنزَع من سياقه الطبيعي ليُعاد توظيفه ضمن خطاب إيديولوجي. هكذا تصبح صورة الطفلة العارية في فيتنام – بتجريدها من اسمها وسياقها وصرختها – رمزًا لدمار أميركا، أيقونة تُغسل بها يد السياسة الأميركية لاحقًا باعتبارها قد “تعلمت من الماضي”. أما محمد الدُرّة، فكان استثناءً قسريًا، خرقًا للنسق السائد، لكنه استُهلك بسرعة، وأُعيد دفنه رمزيًا تحت أكوام الشكّ والتشكيك و”السياق الغامض”.
إذًا، ليست الصورة ما يُحدّد المأساة، بل قابلية الضحية لأن تُرمّز. ورد، الطفلة التي خرجت من ألسنة النيران في غزة، لا تمتلك هذه القابلية. لماذا؟ لأن دالّها – كونها فلسطينية، محروقة، عربية، مسلمة – لا ينسجم مع النظام الرمزي السائد في الإعلام الغربي. مدلولها يُربك السرديّة. ووسائل الإعلام لا تحبّ الإرباك.
“القارئ الضمني” للكاميرا
كلّ خطاب يتضمّن قارئًا ضمنيًا، أي أن كل صورة تُبثّ، تُصمَّم مسبقًا لتُستقبل من نمط معيّن من الجمهور. الصورة التي تُحرّك الضمير الغربي يجب أن تكون مريحة في رموزها: طفلة شقراء، خلفها دخان، عدسة تبكي، جندي شرّير واضح المعالم. لكن ماذا لو كانت الطفلة سمراء، محجّبة، والجاني غير مرئي؟ هنا تنهار البنية السردية، ويتحوّل المشهد من صدمة إنسانية إلى خطأ بصري يُستبعد من واجهة النشرات وصدارة المواقع والصفحات.
لا تكفي الصورة لصناعة الأيقونة. لا يكفي أن يكون الدم طازجًا والصرخة حقيقية. يجب أن تمرّ المأساة عبر “فيلتر” السياسة والذوق الرمزي المسموح به. وهكذا، فإنّ الطفلة الفلسطينية “ورد”، ومحمد الدرة، وإسعاف المنصوري والممرضات الفلسطينيات، والمقنوصين في العراء، ليسوا ضحايا فحسب. هم شهداء محرومون من التمثيل
“ورد” لا تُشبه الأيقونة الغربية. شعرها ليس أشقر اللون بما يكفي، دموعها لا تُترجم إلى تعاطف تلقائي، لأن جهاز الاستقبال البصري في العقل الإعلامي الغربي لا يقرأ الرموز القادمة من غزة كما يقرأها من كييف أو تل أبيب!
عندما يُمحى الحدث لأنه غير قابل للتسويق
لا يكفي أن تكون المأساة عظيمة، بل يجب أن تكون قابلة للـ framing. مشهد “ورد” وهي تسير بين النيران لا يُنشر لأنه قاسٍ، بل لأنه قاسٍ وغير ملائم. إنّه يعقّد الرواية، يكشف تواطؤًا لا يُريد أحد أن يعترف به. لذلك يُخفى، ويُستبدل بمفردات كاذبة: “ضحايا”، “موت”، “أضرار جانبية”.
رولان بارت تحدّث عن اللغة التي تُخفي أيديولوجيا. حين تقول النشرات “قُتل عددٌ من الفلسطينيين”، فإنها تستعمل تركيبًا لغويًا يقصد التمويه، لا الإبلاغ. هذا ليس فقط تحريفًا للوقائع، بل عملية رمزية كاملة: قتل مرّتين، الأولى بالصاروخ، والثانية بالصمت.
الصورة كآلية فرز أخلاقي
إحدى أكبر الخدع الإعلامية أن تُعرض علينا مشاهد القتل بغية أن نعتادها. القتل في غزة لا يُخفى تمامًا، بل يُعرض بتقنين، بجرعات محسوبة، لكي يتحوّل إلى خلفية ضوضاء، جزء من النشرة الجوية. أما مشاهد معينة – مثل طفل أوكراني يبكي قرب أنقاض منزله – فتُمنح كل عناصر التصعيد الرمزي: كاميرا بطيئة، موسيقى حزينة، تعليق درامي. إنها تُصنع كـ صورة للتاريخ.
فلماذا لم تُصنع صورة “ورد” كذلك؟ لأن الرمز يُمنح، ولا يُكتسب. لأن الرمز يحتاج إذنًا سياسيًا. لأن الضحية يجب أن تخضع لاختبار الجدارة البصرية. و”ورد”، للأسف، لم تُجتز هذا الاختبار، لا لأنها ليست ضحية كافية، بل لأن قاتلها محصّن من الإدراج في النصّ الإعلامي كـ”مجرم”.
حين يكون الحياد اختراعًا
هنا نبلغ قلب المفارقة: الإعلام الذي يرفض بثّ صورة “ورد” بحجّة المهنية، هو الإعلام نفسه الذي بثّ صورًا مفبركة لمزاعم الهولوكوست الجديد ضد إسرائيل، وأثبتت لاحقًا أنها مختلقة أو مجتزأة. امبرتو إيكو قال إن كل نص هو متاهة من الدلالات، لكن الإعلام اختار أن يغلق بعض الممرات، وأن يضع لافتة “ممنوع المرور” على الصور القادمة من غزة، سوريا، لبنان، اليمن، والسودان.
الرمزية الانتقائية ليست مجرد خيانة أخلاقية، بل صناعة للذاكرة الكاذبة. سنُعلّم الأجيال القادمة أن أطفالًا احترقوا هنا وهناك، لكننا سنُظهرهم حسب جواز سفرهم.
من الغياب إلى الأيقونة الممنوعة
لا تكفي الصورة لصناعة الأيقونة. لا يكفي أن يكون الدم طازجًا والصرخة حقيقية. يجب أن تمرّ المأساة عبر “فيلتر” السياسة والذوق الرمزي المسموح به. وهكذا، فإنّ الطفلة الفلسطينية “ورد”، ومحمد الدرة، وإسعاف المنصوري والممرضات الفلسطينيات، والمقنوصين في العراء، ليسوا ضحايا فحسب. هم شهداء محرومون من التمثيل.
إنهم كالأبطال الملعونين في أساطير بارت: موجودون في الهامش، محذوفون من السرد، وممنوعون من التحول إلى علامة.
ربما لن تذكرهم أغلفة المجلات، لكنهم سيظلون يطاردون الضمير في مناطق اللاوعي. هناك، حيث لا تستطيع الكاميرا أن تتحكم بكل شيء.