كيف نملأ الفراغ بين “الحصرية”.. والاستراتيجية الدفاعية؟

لا تبنى الاستراتيجيات الوطنية على خلفية انفعالية أو انتقامية أو تشفياً من فريق وطني ضد آخر. بل على الاستراتيجية أن تكون محايدة وموضوعية بالمعنى المصلحي العام. فالدولة العادلة هي الدولة التي تكون محايدة تجاه مواطنيها، بمعنى عدم الانحياز لفئة دون الأخرى، وعدم تجسيد مصلحة فئة دون أخرى، أو أفراد دون آخرين. ما يجعلها قادرة على المساواة بين مواطنيها في حقوقهم وواجباتهم.

من هنا، اللبنة الأولى لصوغ الاستراتيجية الوطنية تكمن في تحديد المصالح والأهداف الوطنية بموضوعية، وبعيداً عن العداوات الداخلية، أو الانزياحات الفئوية. كذلك، لا تتحدد التهديدات والتحديات والمخاطر إلا على هذه القاعدة من زاوية المصلحة العامة الشاملة لكل فئات المجتمع مهما تنوعت. فتكون نظرة الدولة لمواطنيها هي نظرة الأب الصالح لأسرته والراعي الصالح لرعيته.

لقد مرّ لبنان منذ الاستقلال على الأقل، بحقبات سياسية متعددة ومتنوعة، أحدثت لدى اللبنانيين جروحاً فردية وجماعية غارت عميقاً في وعيهم ولاوعيهم، أبعدت معظمهم عن المنطق الوطني المحايد والمجرد. وبالتالي، أصبح الحكم على ظرف سياسي معين ينطلق، بوعي أو بدون وعي من خلفيات قد تشوّه نظرته إلى كيفية التعاطي مع هذا الحدث.

الأخطار الإسرائيلية

لا جدال على أن الخطر الأكبر الذي يواجهه لبنان هو وجود الكيان الصهيوني على حدوده الجنوبية. والخطر ليس عسكرياً وأمنياً فحسب، بل هو خطر وجودي، يستهدف الوجود والدور والصيغة. فمن اللجوء الفلسطيني والتداعيات الكثيرة التي تحمَّلها لبنان بسبب هذا اللجوء، إلى الأطماع الجغرافية التوسعية، كذلك الأطماع الاقتصادية والمائية والغازية، ولا ينتهي الخطر بالطموح الإسرائيلي الدائم بأن يلعب الكيان الصهيوني الدور الذي لعبه لبنان في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لتصبح إسرائيل هي بوابة العرب إلى أوروبا والغرب. ولا يتحقق ذلك إلا بالقضاء على كل مقومات الازدهار والتطور في لبنان. وهذا الخطر مطلق وقائم بصرف النظر عن الظروف الموضوعية التي أدّت إلى تغيير آني في قواعد الاشتباك، أو إلى فتح جبهة معينة ضمن ظرف معين. وهذا ما نبّه له مفكّرون لبنانيون منذ نشأة هذا الكيان مثل ميشال شيحا وشارل مالك وغيرهما. وبالتالي، عند صوغ استراتيجية للأمن الوطني في لبنان، لا يجوز أن يُعطى العدو الصهيوني أسباباً تخفيفية متأتية من أية أوضاع ظرفية حتى لو كان سببها أحد الأطراف في لبنان كما جرى في “حرب الإسناد” في خريف العام 2023.

ادوارد سعيد وفواز طرابلسي يرميان جنود الاحتلال بالحجارة عند بوابة فاطمة

وعند عرض الأخطار الإسرائيلية يجب الأخذ بالاعتبار التغيير الكبير الحاصل في إسرائيل نفسها. فإسرائيل التي كانت في الماضي تعتبر معاهدات السلام مكسباً كبيراً لها، تحكمها اليوم الفئة التي ترفض السلام والتي قتلت اسحاق رابين قبل ثلاثة عقود. إسرائيل اليوم تضخّمت طموحاتها بعد ما حققته خلال السنتين الفائتتين، وبالتالي لن تكتفي باتفاقية أمنية، أو هدنة أو حتى سلام وبخاصة مع الدول التي تُطوّقها. لقد صرّح قادتها عن مشروعهم بإقامة إسرائيل الكبرى على الأقل سياسياً، فالبلد الذي لا تستطيع إسرائيل احتلاله عسكرياً واستيطانياً، ستسعى لتجريده من كل قواه العسكرية والسياسية وحتى الاقتصادية، والسيطرة عليه حتى لا تقوم له قائمة. فمن يسعَ للتطبيع اليوم عليه أن يعلم أن إسرائيل قد تخطت هذه المرحلة، وأن التطبيع بمفهومها أصبح معناه الخضوع.

هذا مع الأخذ بالاعتبار أن الخطر الإسرائيلي مضاعف بسبب الدعم الغربي اللامتناهي وبخاصة الأميركي. وبالتالي عند البحث في مواجهة الخطر الإسرائيلي، لا بد من أن نلحظ أن السيطرة الأميركية السياسية على لبنان تصل إلى حدود الانتداب. هذه الهيمنة الأميركية على السياسة الداخلية تعمل على شلّ قدرات لبنان الدبلوماسية والعسكرية ليصبح عاجزاً عن مواجهة الكيان الصهيوني على كل الصعد وليس فقط على الصعيد العسكري. من هنا، لا يمكن الوثوق بالدعم الأميركي للبنان طالما أن الولايات المتحدة متماهية مع الكيان الصهيوني.

.. وأخطار من جهة سوريا

من جهة أخرى، وبسبب التطورات في سوريا، استجدت أخطار كبيرة من ناحية الشرق والشمال. فالنزوح السوري الذي سبّبته الحرب السورية شكّل أخطاراً ظاهرة وهي الأخطار الاجتماعية والاقتصادية، وأخرى كامنة وهي إمكانية تجنيد خلايا نائمة داخل مجتمعات النزوح السوري وإمكانية استغلالها في أية فتنة مذهبية.

أما بعد سقوط نظام بشار الأسد، فقد استلم قادة “جبهة تحرير الشام” (النصرة سابقاً) السلطة في سوريا. هذه الجبهة التي قاتلها – عن حق أو غير حق، فليس هنا مجال نقد هذا التدخل – لبنانيون. ولو صدّقنا ما يصرّح به هؤلاء القادة عن نيتهم في طي صفحة الماضي، وهو ما لا يمكن الركون إليه بعد ما جرى في الساحل، وضد الدروز، وحتى ضد المسيحيين، فقد ثبت بما لا يقبل الشك أن عدداً لا يستهان به من الفصائل المستنفرة للأخذ بالثأر من اللبنانيين الذين قاتلوهم في سوريا، لا سلطة للدولة المركزية السورية عليها. فنحن اليوم أمام واقع أن فئة من اللبنانيين ليست فقط عرضة لأعمال انتقامية تطال مقاتليها، بل أيضاً نساءها وأطفالها وشيوخها.

وعند بناء استراتيجية الأمن الوطني، لا بد من الانتباه إلى وقائع شديدة الخطورة على فئة معينة من اللبنانيين، عنيت بها بيئة المقاومة. فهم لأسباب لها علاقة بخيارات سياسية وعسكرية سابقة – أعود وأقول بصرف النظر إن كانت صحيحة أم لا – معرضون وحدهم دون باقي اللبنانيين لأخطار هائلة تدفعهم للتمسك بسلاحٍ يعطيهم بعضاً من الطمأنينة، في ظل دولة مكبّلة بالهيمنة الأميركية المتماهية مع إسرائيل، ممنوع عليها بناء قوة عسكرية رادعة أو على الأقل بناء قوة دفاعية.

إقرأ على موقع 180  الأسد: نعم التقينا بالأتراك.. وترامب شفاف ولكن

كيف يمكن لاستراتيجية أمن وطني أن تعطيهم الشعور بالأمان الذي يفتقدونه اليوم لنصل إلى حصرية السلاح التي نتمناها جميعاً في ظل دولة قوية قادرة، دولة “تحمي وتبني” كما جاء في خطاب القسم؟ بالتأكيد، ليس عبر التهديد بالترحيل، أو بالويل والثبور وعظائم القوة الإسرائيلية، وليس عبر منع إعادة الإعمار من قبل القائمين على الدولة التي مفترض أنها “تبني”، ولا بتشديد العقوبات الاقتصادية من الدولة التي مفترض أنها “تحمي”، ولا بالتنمر على شهدائها وتجاهل جرحاها وأيتامها وثكالاها اقتصاصاً من خياراتها السابقة. أيضاً ليس بالركون لوعود أميركية وإسرائيلية كاذبة، شهدنا وحشيتها بأم العين، وخبرنا خرقها للاتفاقيات والعهود.

إذا لم تخطط الدولة لاستراتيجية دفاعية يُؤمَن لها، فلن يعود أمام هؤلاء سوى موتين: موت بالغدر أو موت وهم يقاتلون. برأيكم أي موت سيختارون؟

Print Friendly, PDF & Email
هالة أبو حمدان

أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  مفاوضات فيينا رهينة "الأثمان".. و"الضمانات المصيرية"!