

مرة جديدة يُدفع لبنان إلى عين العاصفة من دون أن يكون طرفاً فيها. ومرة جديدة يُختَلق له ملف خطير بغير وقته، لا بل ضده، في توقيت ملتبس، وحول عنوان بالغ الحساسية: سلاح المخيمات الفلسطينية. وكأن هذا البلد المنكوب بماله وسياسته وحدوده وأمنه، ينقصه شرارة جديدة تأخذ شكل “مبادرة” لكنها تخفي في طيّاتها نوايا مبيتة للواقع اللبناني بكل أبعاده وتشعباته.
وثمة مفارقة أنّ من فجّر النقاش هذه المرة ليس طرفاً لبنانياً، ولا جهة دولية، بل القيادة الفلسطينية الرسمية نفسها، من خلال الإصرار على تنظيم زيارة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عباس (أبو مازن) إلى بيروت في 21 أيار/مايو الماضي، في توقيت بالغ الخطورة، إقليمياً ومحلياً، برغم أن الدولة اللبنانية، في أرفع مستوياتها، كانت تُفضّل تأجيل الزيارة إلى وقت أكثر مناسبة وملاءمة. لكنّ ما بدا إصراراً على الزيارة من الجانب الفلسطيني، تبيّن سريعاً أنه إصرار على “أمرٍ ما”، بعدما بدأت تتسرب ملامح مشروع متكامل لإثارة ملف سلاح المخيمات الفلسطينية وطرح نزع السلاح في توقيت ملتبس وتحت شعارات أكثر التباساً لا تخدم لا الفلسطينيين ولا اللبنانيين.
المعضلة تبدأ من سؤال بسيط: هل ما طُرح هو فعلاً من مصلحة الدولة اللبنانية؟ وهل يأتي في وقته؟ وهل استُشيرت الجهات الفلسطينية المعنية في لبنان، أي “قيادة الساحة اللبنانية” التابعة لمنظمة التحرير، التي لها تجربتها الطويلة والمريرة مع الواقع اللبناني ومخيماته، أم أن كل شيء فُرض فرضاً من فوق، كما لو أنّ لبنان مجرّد محافظة فلسطينية تابعة لقرار رام الله، وكأنّ بيروت لا تعرف مصالحها، بل تحتاج من يدلّها على سبل “السيادة” و”حماية الاستقرار” و”حصرية السلاح”؟
ثمّة من يتعامل مع سلاح المخيمات الفلسطينية كقضية طارئة وخطيرة وملحّة، لكن الحقيقة أن هذا السلاح محدود الانتشار ضمن نطاق مخيمات محاصرة أصلاً بالجيش اللبناني، وتُرصد كل حركتها الأمنية. وبالتالي، نزعه ليس مجرد قرار أمني أو سياسي بل يرتبط بالواقع الفلسطيني في لبنان، وحق العودة، وقضية اللاجئين، وهو ما يجعل توقيت طرحه اليوم مريباً جداً، وبخاصة وأن الأجواء الإقليمية والدولية لا توحي بجهد حقيقي لحل أزمة اللجوء، بل لتصفيتها، من خلال توطين مقنّع أو تهجير علني، أو حتى تفكيك ممنهج للمخيمات الفلسطينية.
وبينما يعيش لبنان لحظة أمنية خطيرة عند حدوده الجنوبية، وسط احتمالات توسع الحرب الإسرائيلية مجدداً إلى الداخل اللبناني، لا سيما في ضوء الأجوبة الأميركية التي يُفترض أن يحملها إلى بيروت الموفد الأميركي توماس برّاك خلال حوالي الأسبوعين، رداً على ما تُسمى “الورقة اللبنانية”، لا يُفهَم كيف تُقرّر قيادة رام الله إثارة قضية السلاح الفلسطيني، وكأن هناك من يُراد له أن يفتح جبهة في المخيمات، لتضاف إلى الجبهة المفتوحة مع العدو، وثم وفود فلسطينية تزو بيروت بعنوان “إعادة ترتيب البيت الفتحاوي”، لكن لا أحد يملك تفسيراً لهذه “الطحشة”، ولا سيما توقيتها لا يمكن فصله عن مشروع تصفية القضية الفلسطينية عبر تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية والشروع بتفكيك مخيمات اللجوء الفلسطيني، ولا سيما في لبنان، بالقوة، وبالتالي دمج اللاجئين الفلسطينيين في مجتمعاتهم المحلية، وقطع الطريق على أي إمكانية فعلية لفرض حق العودة.
المطلوب اليوم ليس نزع السلاح بل نزع الفتنة. ليس اجتثاث المخيمات بل احتضانها. ليس محو اللاجئين بل حماية هويتهم. والمطلوب، قبل كل شيء، أن يُفهم أن لبنان لا يحتاج إلى أزمة جديدة، بل إلى من يرفع عنه أثقاله لا أن يزيدها. وأن سلاح الفتنة أخطر بكثير من أي سلاح آخر، لأنه لا يطلق النار على الخصم، بل على الذات
والمريب في طرح السلطة الفلسطينية أنه لا يكتفي بتجاهل السياق اللبناني وتعقيداته، بل يحاول فرض أمر واقع على الدولة اللبنانية، إذ يوحي وكأن بيروت استُدرجت إلى التزام ما، أو دخلت في مشروع لا يشبهها، بينما الحقيقة أن الدولة كانت تفضل تجنّب فتح هذا الملف الخطير الآن، غير أن قيادة السلطة أصرّت على المضي، لا حباً بلبنان، بل حباً بإشعال فتنة فلسطينية فلسطينية ثم فلسطينية لبنانية.
الأدهى من ذلك هو التعتيم على موقف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، التي عُرفت تاريخياً بعقلانيتها، وحرصها على التوازن في العلاقة مع الدولة اللبنانية. هذه القيادة وجدت نفسها فجأة في موقع “الخصم”، وتعرّضت لهجوم عنيف من فريق الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه، لأنها رفضت أن تكون أداة لمخطط تفجيري ضد لبنان واللاجئين الفلسطينيين على حد سواء. إذ كيف يُعقل أن تُطرح قضية السلاح الفلسطيني من دون الرجوع إلى مكونات الساحة الفلسطينية في لبنان؟ ومن قال إن رام الله تفهم الواقع اللبناني أكثر من قيادة عاشت التجربة اللبنانية بكل مآسيها، وما تزال تعاني من تبعات تلك المرحلة؟
وهنا لا بد من التوضيح: لا أحد في لبنان ضد بسط الدولة اللبنانية سيادتها على أراضيها كاملة، بما فيها المخيمات، ولكن هذا لا يحصل بإصدار بيانات أو عبر زيارات ملغومة، بل ضمن مشروع متكامل اجتماعي، إنساني، أمني، وسياسي، يعيد تنظيم وضع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ويمنحهم الحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية، ويؤمن حلاً عادلاً لقضيتهم، وليس عبر تجريدهم من السلاح ومن المأوى ومن الهوية. فكيف يمكن نزع سلاح اللاجئ من دون أن تعطيه الحد الأدنى من الأمان والكرامة؟
ولا بد من توضيح ثانٍ: الفلسطينيون في بعض المخيمات صاروا ضحايا السلاح المتفلت الذي لا وظيفة له إلى حماية مافيات الممنوعات، كما يحصل بشكل شبه يومي في مخيم شاتيلا في بيروت، وهذه القضية تُعالج وحدها بإرادة الجانبين الفلسطيني واللبناني وليس برميها على هذا الطرف أو ذاك.
***
ثمّة مؤامرة تُرسم بوضوح ضد الشعب الفلسطيني في لبنان، لأنه نأى بنفسه طوال السنوات الماضية عن الصراعات الداخلية في البلد، ورفض أن يكون ورقة في يد هذا الطرف أو ذاك، لا في الحرب السورية، ولا في النزاعات اللبنانية، ولا في الصراعات الإقليمية. هذا الحياد البنّاء هو ما أزعج الكثيرين، خصوصاً في لحظة يُعاد فيها رسم خرائط المنطقة عبر تفكيك القضايا الكبرى، مثل قضية اللاجئين الفلسطينيين. لذلك، يريدون تفجير المخيمات من الداخل، ليُقال لاحقاً إن بقاءها صار خطراً على الدولة اللبنانية، وإنه لا بد من تفكيكها. والمخيم حين يُفكك، يُهدم، واللاجئ حين يُهجر مجدداً، يذوب. وهذه هي المؤامرة الحقيقية.
كل الأسئلة تطرح نفسها بقوة: من الذي يُقرّر اليوم مصير المخيمات؟ هل “أبو مازن” الذي لا يملك سلاحاً فيها أصلاً؟ أم “المجموعة” المحيطة به، التي تتصرف بفوقية واضحة مع القيادة الفلسطينية في لبنان؟ ثم ما معنى أن تُسوّق السلطة الفلسطينية، بشبه تفاهم مع أطراف لبنانية ودولية، لفكرة أن المخيمات قنابل موقوتة يجب نزع فتيلها فوراً؟ وهل هذا هو الحل؟ أم هو التمهيد لانفجار أشد وأوسع، يبدأ من المخيمات، ولا ينتهي قبل أن يطال كل البيئة اللبنانية المحيطة بها؟
والسؤال المركزي يبقى: على من “يمون” أبو مازن لتسليم سلاحه في المخيمات؟ هل “فتح” موحدة؟ وهل هناك من يصغي في عين الحلوة أو البداوي أو شاتيلا لأوامر رام الله؟
الحقيقة أن الوضع في المخيمات معقد ومتشعّب، ولا يحتمل شعارات فارغة، ولا أوامر فوقية. وبالتالي، فإن كل حراك السلطة في هذا الملف لا يُمكن تفسيره إلا بأنه مشروع فتنة، ومقدمة لحرب داخل المخيمات، لن يسلم منها المحيط اللبناني والفلسطيني معاً.
المطلوب من الدولة اللبنانية أن لا تنجرّ إلى هذا الفخ، وأن تحمي نفسها من هذا المشروع، عبر التمسّك بالحوار والتنسيق مع قيادة الساحة الفلسطينية، وليس تجاوزها؛ فليس مقبولاً أن تتحمّل الدولة اللبنانية وحدها تبعات مغامرات فريق فلسطيني لا يمون على السلاح، ولا يملك خطة، ولا يعرف لبنان، ولا يخدم الفلسطينيين.
المطلوب اليوم ليس نزع السلاح بل نزع الفتنة. ليس اجتثاث المخيمات بل احتضانها. ليس محو اللاجئين بل حماية هويتهم. والمطلوب، قبل كل شيء، أن يُفهم أن لبنان لا يحتاج إلى أزمة جديدة، بل إلى من يرفع عنه أثقاله لا أن يزيدها. وأن سلاح الفتنة أخطر بكثير من أي سلاح آخر، لأنه لا يطلق النار على الخصم، بل على الذات.