

في الجانب الآخر، كنت أرى الفدائي المتقاعد منذ العام 1982، أرى ظله وقد بنى جبالاً منه في حضرة الغياب. فدائيٌ هنا ومطربٌ هناك وشاعر أيضاً يُحدّثنا عن ظلالنا في المخيم. من هو أفلاطون يا ترى؟
انهزامي هارب من الواقع. عشنا طفولتنا ما بعد ضربة الجيش في صيدا نُغني في منزل احتله أهلي لفترة من الزمن ويعود لمسيحيين مهجرين وكان خالياً أيضاً إلا من هذه الأغنية. “الثلاثة عصافير” هي بمثابة جسري الأول بين عالميّ: الواقع والخيال.
كان منزلنا متواضعاً أيضاً. في ما بعد والآن، أين ذهب ظلنا الذي كنا نحبه؟ لماذا تكدّس في زوايا الغرفة؟ لماذا لم يهدمه أحد، هل كان أفلاطون نفسه هو الساخر وناقد العصر اللبناني الحديث؟ العصر الذي شكّلت صداقته الأولى مع الفلسطينيين وعيه وورثناها في تناقض صارخ.
إن قلنا إنه زياد فذلك يعني الجنون، وإن قلنا إنه الفدائي الميت، فهذا ظلم؟ متى كان أفلاطون شفاؤنا. لماذا نحن غير أسوياء، ومتى كان لنا علاج! كل ما نعلمه أن أحدهم سحبنا إلى الغناء والرقص مع جمع من “المجاني”.. عن غيابهم ثم غيابنا.. عن فصامهم ثم فصامنا. هل هو صوت “رشيد” المنفصم عن الواقع وله حق الجنون؟ هو ضجيج ما بعده ضجيج في جميع الغرف.
كان “رشيد” يخلط الأوراق والأسماء؛ الأصوات والأشخاص لكنها كانت تبدو منطقية لنا ولم تزل حاجتنا للجنون في أدوات الفن.
يقول عالم النفس البريطاني الشهير كارل يونغ إن الشرط الأول لأي علاج هو أن يواجه اللاوعي ظله. ويقول محمد فوزي: “دلوقتي حنروحلو سوا ونصالحو عالنور والهوا”.
تكلم أفلاطون عن ظلال تغشي عيوننا عن النور، أما الظلام فلا هواء فيه. وهل في غرفة أفلاطون ظل؟ بالطبع فهو يعترف بكل الواقع بكل صراحة: “ومفكرني أفلاطون..”. وأين حلّ ظل المخيم؟ هل صار فقاعة تكوّرت في الأزقة والحارات، كما تكورنا هناك ولم نزل. الخصام سيّد الموقف في ممات الحياة.
يصالح اللاوعي ظله. هكذا قال يونغ! أما أفلاطون فلم يزل في خصام مع ظله. تبدو تلك الأغاني فلسفية في روحها، وإن كنا نحركها باختلاف زوايانا. لكنا هل نتفق مع يونغ في أن أول العلاج هو التعرف إلى الظل؛ مواجهة ذلك الجبل حتى تسويته مع الأرض؟ هل قال ذلك؟ كلا لم يقل في الأرض فقد تحدث كثيراً عن جبال من الأوهام أو الذنوب أو القسوة أو الأذية أو الندم ولا ينتهي الهجاء. أما الهروب، الفصام، الجنون فتلك سماتنا المتوارثة التي تصالحنا معها. رأينا جمالنا وظلالنا في جنون زياد. كنا بحاجة للجنون ولم نزل، لهذا نحن أيتام اليوم.
حقيقتنا هي أن الظل داخل المخيم وليس خارجه ولكل مخيم نصيب ولكل لاجئ نصيب. وكلما طال المخيم دون علاجه، اتسعت رقعة أو حفرة الأخطاء، وهل يصح القول هنا عن علاج! من المعيب ذلك، فمنذ أن امتدح محمود درويش الظل العالي وهو يكبر إلى أن هيّأ لجيل ما بعد أوسلو ظله، فولد المخيم المسخ من جديد.
ثابت هو المشهد. حطّ الحمام الزاجل بجانب المرحاض. معتم كان بلا نور ولا هواء. فلنذهب إلى اللقطة الأولى، إلى الرمل. نفسها ذراته لعب فيها طفل المخيم في معسكراته الغابرة في مختلف المراحل إلا اليوم. ما هو الموكب وأين كان؟ لم تأتِ العصافير الثلاثة. ليس هناك سوى الحمام الزاجل. وان أتت هل انتهى جنون من في الغرفة؟ الجمع بقصائده، بعدميته، بظله، بسخريته، برقته، برصاصه، وخوائه. متى حلّ زياد حل الآخر فينا. حلّ الناقل والسامع، المحلل، الثائر، المتمرد، العاشق، الفقير دائماً وأولاً. كانت بيوتنا خاوية بعد أن طار الحمام الزاجل بحثاً عن النور والهواء. أما الفدائي، الشاعر، أفلاطون المجنون فلم يزل ينتظر العصفور أو العصافير الثلاثة.