

وُلد صنع الله إبراهيم في القاهرة عام 1937، وفي سنواته الأولى، وجد نفسه منخرطًا بعمقٍ في تياراتٍ فكريةٍ وسياسيةٍ حيوية، كانت تملأ المشهد المصريّ والعربيّ في الخمسينيات والستينيات. كانت تلك الفترة هي حقبة المدّ القوميّ والتحرّري، لكنها كانت أيضًا بداية تبلور أنظمة سلطويّة قمعية. شارك إبراهيم في الحركات اليسارية المناهضة لنظام جمال عبد الناصر، وهو ما أدى إلى اعتقاله وسجنه عام 1959، حيث قضى في السجن سنواتٍ أثمرت، بعد خروجه، عن أدبٍ فريدٍ لم يكن له مثيل.
لم تكن تجربة السّجن بالنّسبة لصنع الله إبراهيم مجرّد فصلٍ أسودٍ في حياته؛ بل كانت بمثابة بوتقةٍ صقلت وعيه الفنيّ والسياسيّ. فمن داخل الزنزانة، وُلدت رواية “تلك الرائحة” (1966)، التي لم تكن مجرّد حكايةٍ شخصيةٍ عن المعاناة، بل كانت وثيقةً وجوديةً تؤسّس لنمطٍ جديدٍ من الكتابة العربية، يمزج بين اليوميّ الماديّ والوعي النقديّ العميق. لقد كانت الرواية بمثابة مرآةٍ تعكس أزمة جيلٍ كامل، عاش خيبة الأمل في المشاريع القومية، ووجد نفسه سجينًا ليس فقط خلف القضبان، بل في واقعٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ خانق. تميّزت الرواية بأسلوبها المقتصد، وجُمَلَها القصيرة التي تشبه لقطات الكاميرا، وتركيزها على التفاصيل الحسّية الدقيقة كروائح السّجن والأطعمة والأصوات، مما جعلها عملًا رائدًا في فنّ الواقعية الجديدة.
لعل أشهر مواقفه هو رفضه استلام جائزة “الملتقى الثقافي” عام 2003. عندما صعد إلى المنصة، ألقى خطابًا تاريخيًا أعلن فيه رفضه للجائزة احتجاجًا على سياسات النظام وتواطؤ المثقفين معه. هذا الموقف لم يكن مجرّد تصرّف فرديّ، بل كان رسالةً قويةً لكل الأدباء والفنانين بأن عليهم أن يكونوا أحرارًا في مواقفهم
السّخرية كأداة تشريح: “اللجنة” و”شرف”
في خضم التراجع السياسي والاجتماعي، وُلدت رواية “اللجنة” (1981). كانت بمثابة صرخة ساخرة ومُرّة في وجه البيروقراطية المُتوحّشة. محاكاةٌ عبقريةٌ لواقعٍ عربيٍّ تتلاشى فيه الفردية أمام كيانٍ مجهول، وتصبح فيه حياة الإنسان مرهونةٍ بقرار لجنة لا وجه لها ولا صوت. استخدم فيها إبراهيم لغة جافّة، خالية من أي تلوين عاطفيّ، وكأنه يُقدّم لنا تقريرًا مُجرّدًا عن كارثة واقعة، تاركًا للقارئ مهمّة استنتاج أبعادها الأخلاقية والسياسية. أما رواية “شرف” (1997)، فقد عمّقت هذا المنظور النقديّ، حيث قدّمت صورةً بانوراميةً للفساد المستشري في المجتمع المصريّ، من خلال قصة رجلين يمثلان طبقاتٍ اجتماعيةٍ مختلفة، يجتمعان داخل السّجن. في هذا العمل، يذهب إبراهيم إلى ما هو أبعد من مجرّد السّرد، ليقدم تشريحًا دقيقًا لمفاهيم الشّرف والكرامة في عالم ينهار تحت وطأة الفساد. هذه الروايات وغيرها، مثل “وردة” التي تناولت الثورة الفلسطينية، و”أمريكانلي” التي انتقدت تأثير العولمة… شكلت جميعها نقدًا متكاملًا للواقع العربيّ.
الأدب كوثيقة تاريخية: “بيروت يا بيروت”
ولعلّ من أبرز محطات مسيرته التي تكشف عن عبقريته في التجريب، رواية “بيروت يا بيروت” (1984). لم يكتب صنع الله إبراهيم عن الحرب الأهلية اللبنانية من منظورٍ خارجيّ، بل غاص في تفاصيلها، وقدّمها كجزءٍ من أزمةٍ أعمق تمزّق النّسيج الاجتماعيّ والوعي الإنسانيّ. لقد كانت بيروت في نظره أكثر من مجرّد مدينة؛ كانت رمزًا لفشل المشاريع القومية العربية وتحوّل الحلم إلى كابوس. مزج في هذه الرواية ببراعةٍ بين السرد التخييلي والوثائق الحقيقية، كالاقتباسات من الصّحف والمجلات، والبيانات الرسمية، وحتى الإعلانات التجارية. هذه التقنية الوثائقية لم تكن مجرّد حيلةٍ فنيّة، بل كانت موقفًا فكريًا يُعلن أنّ الواقع أكثر ثراءً ومرارةً من أيّ خيال، وأنّ واجب الكاتب هو أن يكشف هذا الواقع دون تزييف أو تجميل. لقد كان عمله بمثابة تاريخٍ مواز، يروي قصّة المدينة من وجهة نظر المثقفين والمواطنين العاديين، بعيدًا عن الخطاب الرسميّ.
الموقف الأدبيّ والسياسيّ: وحدة لا تنفصم
لم تكن مواقف صنع الله إبراهيم مقتصرةً على كتاباته فقط، بل كانت روحه الثائرة متجسّدة في كلّ تفاصيل حياته. لعل أشهر مواقفه هو رفضه استلام جائزة “الملتقى الثقافي” عام 2003. عندما صعد إلى المنصة، ألقى خطابًا تاريخيًا أعلن فيه رفضه للجائزة احتجاجًا على سياسات النظام وتواطؤ المثقفين معه. هذا الموقف لم يكن مجرّد تصرّف فرديّ، بل كان رسالةً قويةً لكل الأدباء والفنانين بأن عليهم أن يكونوا أحرارًا في مواقفهم، وأن لا يبيعوا قناعاتهم مقابل أيّ مكاسب. كان يرى أن حرّية الكلمة ليست هبة تُمنَح، بل معركة يجب أن تُخاض.
اليوم، يغيب عنا جسدًا، ولكنّ صوته ما يزال يتردّد في كل روايةٍ من رواياته، التي ستظلّ مرجعًا لكلّ من يبحث عن أدبٍ جريء، يرفض الخنوع، ويصرّ على قول الحقيقة مهما كان الثمن.
سيبقى إرث صنع الله إبراهيم الأدبيّ والفنيّ شاهدًا على أنّ الكلمة، حينما تكون حرّة وشجاعة، قادرة على أن تصنع فارقًا في وعي أمّة بأكملها.
وداعًا أيها الكاتب الذي علّمنا أنّ الأدب ليس ترفًا، بل هو واجب. رحل الكاتب، لكن لم يرحل وعيه.