أزمة العولمة ومستقبل العالم الجديد.. عودة الدولة الوطنية؟

شكّلت نهاية الحرب الباردة لحظة انتصارٍ للمشروع الليبراليّ، الذي بشّر بعالمٍ منفتحٍ تتلاشى فيه الحدود وتتقدم فيه القيم العالميّة على المصالح الوطنيّة. لكنّ العقدين الماضيين شهدا تحولاً جوهرياً، حيث بدأت أركان هذا المشروع تهتزّ تحت وطأة أزماتٍ متعدّدة، ليفسح المجال لعودة خطاب الدّولة الوطنيّة السّياديّ والهويّاتيّ.

كانت العولمة الاقتصاديّة الرّكيزة الأساسيّة للّيبراليّة الجديدة، لكن نتائجها جاءت متناقضةً. بينما استفادت الشّركات متعدّدة الجنسيّات والنّخب الماليّة، تعرّضت الطّبقات الوسطى والصناعات التّقليديّة لضرباتٍ قاسيةٍ. كما يوثّق بايكيتي Piketty (2014) في تحليله الشّهير، أدّت السّياسات اللّيبراليّة الجديدة إلى “تركيزٍ غير مسبوقٍ للثروة”. تؤكّد بيانات منظّمة التّعاون الاقتصاديّ والتنميّة (OECD, 2021) هذا الاتجاه، حيث تشير إلى أنّ التّفاوت في الدّخل قد ارتفع في معظم الاقتصادات المتقدّمة منذ الثمانينيّات، ممّا وسّع الفجوة بين الأكثر ثراءً وباقي المجتمع.

لم يكن هذا التّفاوت اقتصاديًّا فحسب، بل غذّى شعورًا عميقًا بالمظلوميّة الثّقافيّة والاجتماعيّة. كما تشرح عالمة الاجتماع هوكشيلد Hochschild (2016) في عملها الأنثروبولوجيّ، شعر الكثيرون في “القلب المحافظ” لأميركا أنّهم “يقفون في طابورٍ طويلٍ ينتظرون دورهم في الحلم الأميركيّ، بينما يتقدّم الآخرون”. هذا الشّعور بالتّهميش والخيانة من قبل النّخب الحاكمة أصبح الوقود الذي غذّى الاحتجاجات السياسيّة.

الهجرة وأزمة الهويّة

تحوّلت سياسات الهجرة والتعدّدية الثّقافيّة من رمزٍ للانفتاح إلى مصدرٍ للصّراع المركزيّ في السّياسة الغربيّة. فشلت النّخب اللّيبراليّة في كثيرٍ من الأحيان في إدارة التّحوّل الدّيموغرافيّ والاستماع إلى مخاوف المجتمعات المضيفة. هذا أدّى إلى تصوّرٍ واسع النّطاق بأنّ الهويّة الوطنيّة والقيم التّقليديّة تتعرّض للتّهديد. يحلّل غودهارت Goodhart (2017) هذا الانقسام العميق في المجتمع بين ما يسمّيهم “أهل أيّ مكانٍ” – النّخبة العالميّة المتنقلّة – و”أهل مكانٍ ما” – الذين يرتبطون بمجتمعٍ محليٍّ ويشعرون بأن قيمهم تُهمّش.

العجز المؤسسيّ وصعود الشعبويّة

كشفت الأزمات المتلاحقة، من الانهيار الماليّ عام 2008 إلى جائحة كوفيد-19، في مطلع العام 2020 عن عجز المؤسّسات اللّيبراليّة التّقليديّة ومعها الأحزاب التّقليديّة في الاستجابة الفعّالة لذلك الانهيار وتلك الجائحة. ولاحظ الفيلسوف هابيرماس Habermas (2012)، تحوّل مشروعٍ مثل الاتّحاد الأوروبيّ إلى “كيانٍ تقنيٍّ يفتقر إلى الشّرعية الدّيموقراطية والتّضامن الاجتماعيّ” الحقيقيّ. هذا الفراغ في الشّرعيّة والتّمثيل السّياسيّ مهّد الطّريق لصعود قادةٍ شعبويين قدّموا أنفسهم كممثّلين حصريين للإرادة الشعبيّة ضدّ النّخبة الفاسدة المنفصلة عن الواقع. لم يكن خطابهم اقتصاديّاً فحسب، بل هويّاتيّاً أيضاً، مركّزاً على استعادة الهويّة الوطنيّة.

استعادة السّيادة الوطنيّة كردٍ فعلٍ

كان صعود التّيّارات القوميّة والشّعبويّة هو الردّ السّياسيّ على هذه الأزمات، حيث قدّمت رؤيةً بديلةً تتمركز حول الدّولة الوطنيّة وتستعيد مفاهيم السّيادة والهويّة. تحوّلت السّيادة من مفهومٍ قانونيٍّ إلى شعارٍ سياسيٍّ فعّالٍ.

خلال خطابٍ أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في 2018، جسّد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب Trump (2018)هذا التّوجّه عندما أعلن في كلمته “رفع عقيدة السيادة الوطنية معناه، أنّ مبدأ السّيادة المتساويّة هو الضّامن للسّلام، وليس التدخّل العالميّ”. هذا الخطاب لم يكن أميركيّاً فحسب، بل وجد صداه في جميع أنحاء أوروبا. بالإضافة إلى ما تقدّم، تحوّلت الهويّة الوطنيّة من خلفيّةٍ ثقافيّةٍ إلى أيديولوجيا سياسيّة. استخدمت الأحزاب القوميّة “حروب الثقافة” حول التّاريخ والهجرة والقيم الوطنيّة كأدوات للتّعبئة السّياسيّة. كما يوضح أوربان Orbán (2022)، المستشار السّياسيّ لرئيس وزراء المجر عندما يصف نموذج الدّولة الوطنيّة بأنّه عبارة عن “ديموقراطية غير ليبراليّة” تقوم على حماية الهويّة المسيحيّة والقيم التّقليديّة كأسسٍ للمجتمع، وليس كمسائل خاصّة.

انعكاسات التحوّل على الجنوب

لم يقتصر تأثير تراجع النّموذج اللّيبراليّ العالميّ وصعود القوميّة في الغرب على الدّول الغربيّة نفسها، بل امتدت تموّجاته لتهزّ أسس النّظام العالميّ الذي تشكّل بعد الحرب العالميّة الثّانية، ممّا خلق واقعاً جديداً معقّداً لدول جنوب الكرة الأرضيّة (دول العالم النّامي). يمكن قراءة هذه الانعكاسات من خلال عدسةٍ مزدوجةٍ للمخاطر والفرص.

من ناحية أخرى، أدّت الحمائية الاقتصاديّة للغرب، وتوجّهه نحو “إعادة توطين الصّناعات”، وإعادة الدعم لها (Re-shoring)، و”تقريب سلاسل الإمداد”، إلى تعطيل نموذج التّصنيع للتّصدير الذي اعتمدت عليه العديد من الاقتصادات النّاشئة، وبخاصّةً في آسيا. كما أنّ الانسحاب الجزئيّ للقوى الغربيّة من المؤسّسات متعدّدة الأطراف أضعف فاعليّتها، ما قّلل من المساحة المتاحة للدّول الصّغيرة والمتوسطة للمناورة والمطالبة بحصتها في الحوكمة العالميّة. ويوضح تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتّحدة للتّجارة والتنمية -أونكتاد (UNCTAD, 2020) أنّ “الحروب التّجاريّة والتّدابير الحمائيّة تخلق بيئة من عدم اليقين، ممّا يعيق الاستثمارات ويعرض نموّ الاقتصادات النّامية المُعْتَمِدَةِ على التّصدير للخطر”. هذا يعني تراجع التّدفّقات الاستثماريّة وتبادل التكنولوجيا، مما يُهدّد مسارات التّنمية.

من جهةٍ ثانيةٍ، فتح هذا التحوّل مساحاتٍ جديدةً للمناورة والاستقلال الاستراتيجيّ، فوجدت العديد من دول الجنوب نفسها في وضعٍ وسيطٍ (swing states) في صراع القيم والنّماذج بين الغرب من جهة، والصّين وروسيا من جهة أخرى. هذه المكانة الجديدة، منحت هذه الدول قدراً غير مسبوقٍ من القدرة على المساومة (leverage) وفرصةً لممارسة “دبلوماسيّة التعدّدية المنضبطة” (Multi-Alignment)، أو “الانحياز مع مصلحتها الوطنيّة”، بدلاً من الالتزام بتحالف واحد، فسارعت دولٌ مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا والسعودية إلى بناءٍ تحالفاتٍ مرنةٍ ومتعدّدة الأطراف حول قضايا محدّدة، من أمن الطّاقة إلى الأمن الغذائيّ.

إقرأ على موقع 180  ترامب عقبة على طريق صعود الغرب

ويشير الباحث الهندي سجوارز دي كارفالهو (2022) في تحليله لسياسة الهند الخارجيّة إلى أنّ “تراجع الهيمنة الغربية سمح للقوى الوسطى بممارسة وكالةٍ (Agency) أكبر في النّظام الدوليّ، ورفض الانحياز القسريّ واختيار شركائها بناءً على معايير البراغماتيّة وحدها”. بمعنى آخر، أصبح بإمكان دول الجنوب رفض شروط المساعدات والقروض المرتبطة بمعايير الحكم الرشيد وحقوق الإنسان التي كانت تفرضها المؤسّسات الماليّة الغربيّة، والبحث عن شراكاتٍ بديلةٍ مع قيودٍ سياسيّةٍ أقلّ.

نظام عالمي جديد متعدد المراكز

يبدو أنّ عصر الهيمنة اللّيبراليّة غير المقيّدة قد وصل إلى نهايته، ليحلّ محلّه نظامٌ عالميّ أكثر تعقيداً وتعدّديةً في المراكز. يشكّل صعود الدّولة الوطنيّة في الغرب جزءاً من تحوّلٍ أوسع نحو إعادة تأكيد السّيادة والهويّة كقوى محرّكة للسّياسة العالميّة. إذا كان هذا التحوّل يمثل استجابةّ لأزماتٍ داخليّةٍ في المجتمعات الغربية، فإنّ تداعياته تمتدّ لتشكّل واقعاً جديداً للعلاقات الدوليّة بأكملها.

تواجه الدول الغربية تحديّاً وجوديّاً في التوفيق بين متطلبات الأمن الوطنيّ والهويّة من جهة، والالتزام بالقيم اللّيبراليّة والتعدّدية من جهةٍ أخرى. وفي الوقت نفسه، توفّر هذه اللّحظة التّاريخيّة لدول الجنوب فرصةّ غير مسبوقةٍ لإعادة تعريف دورها في النّظام العالميّ، حيث تتحوّل من كائناتٍ مفعولٍ بها إلى فاعلاتٍ مستقلّةٍ قادرةٍ على تشكيل التّحالفات وتحديد الأولويّات بما يخدم مصالحها الوطنيّة.

في الختام، لم يعد التحوّل نحو خطاب الدولة الوطنية مجرّد تيارٍ هامشيٍّ، بل أصبح قوّةً محوريّةً تعيد تشكيل السّياسات الدّاخليّة والخارجيّة في الغرب، وبالتالي يعتمد مستقبل النّظام العالميّ على قدرة جميع الأطراف على التكيّف مع هذا المشهد الجديد. فهل سيسفر عن صراعٍ بين النّماذج أم ينحدر إلى تعايشٍ تنافسيّ؟ وهل ستتمكّن الدول من تطوير أشكالٍ جديدةٍ من التّعاون متعدّد الأطراف يحترم الخصوصيّات الوطنيّة من دون التخلّي عن المكاسب الجماعيّة؟ الإجابة على هذه الأسئلة ستحدّد ملامح ما تبقى من عقود القرن الحادي والعشرين؛ قرن التعدّدية القسريّة والتّحالفات المرنة، حيث لم يعد هناك نموذج واحد مهيمن، بل نماذج متعدّدة تتصارع وتتعايش في آنٍ واحد.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  مَــوْجَة