مواجهة بين بري وخوجة.. بالأوزان والقوافي!

في ديوان الحياة العامة غالبًا ما يختفي الأدب خلف صخب المسؤوليات.. نبيه بري وعبد العزيز خوجة يلتقيان في فضاء اللغة. قدرات لغوية تتجاوز حدود المنصب هنا وهناك. كلاهما يمتلك مخزونًا بلاغيًا. كلاهما جسّد فكرة أن السياسة ليست فقط حسابات ومواقف، بل أيضًا فن إصغاء وبلاغة خطاب. في قصيدتين ولدتا من رحم لقاء دبلوماسي عام ٢٠٠٧. برهنا أن السياسة لا تختزل في المناصب.. وأن قدرة البلاغة على التأثير لا تقل شأنًا عن قدرة القرار.

“ها إنني أمضي ولا مصباح عندي

لا دليل لا رفيق في فلاه

إلا نداء من حبيب راودتني مقلتاه”.

قال عبد العزيز خوجة.

***

“ها إنني أمضي ولا يرتاح عمري جمعة ولا يرتاح سبتا أو أحد

وأتوه في عينين من شجن وذكرى وحدي أتوه ولا أحد

كأن من أحببت راودها انتباه غامض إني تعبت من البلد”.

يجيبه نبيه بري.

***

في زمنٍ كان يجتمع فيه الأدب بالسياسة. ويُزاوج فيه الشعر ومهام الدولة. يطل علينا رجلان شكلا نموذجاً فريداً في السياسة كما في الأدب والثقافة. السعودي عبد العزيز محيي الدين خوجة. الديبلوماسي والوزير والشاعر. واللبناني نبيه بري. رئيس مجلس النواب. السياسي المخضرم وصاحب الحس الأدبي المتأصل. كلاهما التقيا في بيروت. لا على طاولة مفاوضات بل في فضاء الشعر حيث امتزجت السياسة بالقصيدة والبرلمان بالأوزن والقوافي.

لا يمكن فصل هذه التجربة الأدبية في النصف الثاني من العام ٢٠٠٧ عن سياقها السياسي. يومها كان لبنان منقسماً عاموديا بين فريقين (١٤ آذار و٨ آذار). كل بامتداداته الإقليمية والدولية التي لا تخلو من تناقض وتضارب في المصالح وتحديداً بعد انتهاء حرب تموز ٢٠٠٦ الإسرائيلية، وما أعقبها من شغور في رئاسة الجمهورية بانتهاء ولاية الرئيس إميل لحود وعدم قدرة البرلمان النيابي على انتخاب خلف له. إضافة الى الشلل الحكومي باستقالة وزراء فريق ٨ آذار من حكومة فؤاد السنيورة وتعطل طاولة الحوار الوطني تحت قبة البرلمان. في ظل هذا الجو السياسي المتشنج اجتمع السفير خوجة بالرئيس نبيه بري مكلفاً من الملك عبدالله بن عبد العزيز للبحث عن ثغرة في الانسداد المميت في الأفق حمايةً للبنان من العواصف الإقليمية القادمة لا محالة.

***

زيارات عين التينة (مقر رئاسة مجلس النواب اللبناني) يذوب فيها جليد السياسة فما بالك بعواصف الانقسام. يقول خوجة والكلام له “زرت الرئيس بري يوم العاشر من شهر كانون الأول/ديسمبر ٢٠٠٧ في زيارة عمل. كنت كما العادة مع الرئيس بري نُرطّب الحوار السياسي ببعض الشعر. في نهاية اللقاء، قال الرئيس بري: اجلس قليلا أسمعني أخر قصيدة كتبتها. أجبته بأنني أنجزت قصيدة صباح اليوم بعنوان ضرب من المحال”. نهض بري من مقعده قائلا “أريد سماعها”.

قرأ خوجة القصيدة والرئيس بري يمشي دورانا حول مكتبه منصتاً إليه. ومن المعروف عن بري حبه لرياضة المشي. حتى أنّه خصّص ساعة للمشي بين السادسة والسابعة مساء كل يوم في الطبقة الأولى من دارته يقابل خلالها من يضع اسمه مسبقاً عند الممسكين بفضاء قصر عين التينة، الأمر الذي بات تقليداً متعارفاً عليه عند السياسيين والصحافيين والقضاة والضباط وموظفي الإدارات ورجال الأعمال ممن يفوزون بدقائق من “التمشاية” اليومية في حضرة رئيس مجلس النواب اللبناني.

تأثر الرئيس بري بقصيدة عبد العزيز خوجة فتوقف عن المشي قائلاً: “أثرت شاعريتي دكتور عبد العزيز.. هل أستطيع الحصول على صورة من القصيدة؟”.

في مساء ذلك اليوم سلّم مُرسل من الرئيس بري مغلفاً أبيض اللون إلى حرس السفير السعودي في شارع بلس البيروتي العريق كُتبت عليه عبارة “سري للغاية”. أدرك خوجة أن ما بداخل المغلف ليس رسالة رسمية. فالطبقة السياسية اللبنانية تعتمد على الرسائل الشفهية للتواصل في ممارسة عمرها من عمر دولة لبنان الكبير. أدرك أن هذا تواصل أراد له الرئيس بري أن يُسجّله عنده لربما يسجل في التاريخ يوماً ما. فتح المغلف فوجد فيه قصيدة لبري بعنوان “ضرب من الانتباه”.

يقرأ عبد العزيز خوجة قائلاً:

“ونزفت من ليلي ومن أرقي

ومن ظني ومن نفسي ومن وجع الجراح

وظننت أن الليل أدركه الصباح”.

يجيبه نبيه بري:

“وعجبت من قلبي يلاعبني يراهق في مساها

فنزعت من عمري انصرافي حين أدركت الصباح بلا هناها

قد فاتني يا قلب أني قد صرفت العمر محروما هواها“.

القصيدتان الشعريتان ليستا مجرد محاولات شعرية عابرة. إنها نصوصٌ أسّست لحوار بين رجلين يعرفان أن اللغة هي الوجه الآخر للسياسة. ففي قصيدتيهما نجد تبادلًا للصور وتناصّا في العناوين وتناظراً في المفردات، في إشارة إلى أن الشعر ليس نشاطًا هامشيًا بل جزءاً من هوياتهم المتعددة.

***

عبد العزيز خوجة وهو سفير لبلاده في لبنان، لم يترك القلم جانباً. قصيدته “ضرب من المحال” تكشف عن شاعرية متدفقة في قلب ميدان ملتهب. تحمل صوراً ليلية حالكة تتخللها ومضات من نور الأمل والرجاء. من يعرف الوزير خوجة يدرك أنه امام رجل ليست اللغة عنده ترفاً، بل وسيلة لتفريغ هواجس الدبلوماسي الذي يعيش في قلب الأزمات كسفير في بلدٍ لا يعرف السكون.

إقرأ على موقع 180  أحمد سعدات يقرأ المشهد الفلسطيني: الوقت من دم

أما نبيه بري الرئيس الأديب فقصيدته “ضرب من الانتباه” تذهب بنا إلى فضاء آخر. تتقاطع المرآة الداخلية مع انعكاسات السياسة اليومية. يكتب بري كشاعر يعرف أن الكلمات مثل القرارات قد تغيّر مجرى الأشياء. شعره يفيض بالتأمل والحوار مع الذات. بنبرة أسرفت في حب السياسة على حساب الحياة. وبري، رأس السلطة التشريعية اللبنانية مارس دوره السياسي من موقع العارف بأهمية الكلمة.

***

ليست السياسة أو العمل الديبلوماسي وظيفة. كلما زاد منسوب الشغف كلما زاد الإبداع. ومع الإبداع يتألق السياسي والديبلوماسي. التألق ليس مفردات سياسية أو ديبلوماسية. إنه مزيج من الثقافة والأدب والتاريخ والجغرافية. هل كان مفاجئاً لنا أن تندلع مواجهات شعرية بين عين التينة وشارع بلس؟

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  حرب أكتوبر 1973.. كاد العالم ينزلق إلى الهاوية النووية!