منذ ولادة أولى حكومات ما بعد توقيع اتفاق الطائف، كانت حركة أمل، الأكثر ثباتاً في كل الحكومات التي عرفها لبنان طوال 46 عاماً. ومن حكومة سليم الحص (1989) تمثل فيها كل من نبيه بري (وزيراً للاسكان والتعاونيات والموارد المائية والكهربائية) وعلي الخليل (وزيراً للمال) إلى حكومة نواف سلام (ياسين جابر وزيراً للمال وتمارا الزين (وزيرة البيئة)؛ أما “الأخ الأصغر”، أي حزب الله، فتبدأ سيرته مع الحكومات بدءاً من حكومة فؤاد السنيورة الأولى (2005-2008)، أي مرحلة ما بعد الخروج السوري من لبنان، فتمثل بمحمد فنيش (وزيراً للطاقة والمياه) وطراد حمادة (وزيراً للعمل)، وهي تجربة لم تدم طويلاً، إلا أنها دشّنت مرحلة حضور “الثنائي” في كل حكومات ما بعد العام 2005 سواء بوزراء حزبيين أو تكنوقراطيين، كما هو الحال مع محمد حيدر وركان ناصر الدين في الحكومة الحالية.
هذا الحضور لم يقتصر على الوزارة بل امتد إلى النيابة، سواء مع تعيين 55 نائباً بدل المتوفين والذين تمت زيادتهم (1990) أو مع أول انتخابات نيابية في العام 1992، أتت بكتلتين نيابيتين لكل من أمل وحزب الله، ولكن الأهم أن نبيه بري تكرّس رئيساً للمجلس منذ عهد الترويكا الأولى (1992)، إلى جانب المغفور لهما، الياس الهراوي ورفيق الحريري وحتى الترويكا الحالية، إلى جانب جوزاف عون ونواف سلام..
وما يسري على النيابة والوزارة ورئاسة المجلس كانت ينبغي أن يسري على وزارة المال التي تولاها في أول وزارات ما بعد الطائف، أي في حكومات سليم الحص وعمر كرامي ورشيد الصلح كل من علي الخليل (لوزارتين على التوالي) وأسعد دياب. وحسب رواية الرئيس بري، كان لا بد للتوقيع الثالث أن يبقى بيد الطائفة الشيعية، مستنداً إلى مناقشات اتفاق الطائف، لولا أن رفيق الحريري تدخل لدى حافظ الأسد مطالباً بصلاحيات إستثنائية لأولى حكوماته، فكانت جائزة الترضية أن تؤول المالية إليه كرئيس للحكومة، وأن يُسمي إلى جانبه وزير دولة للشؤون المالية.. وهذا المسار جعل وزارة المالية تخرج من يد الشيعة من خريف العام 1992 حتى العام 2014 عندما رهن رئيس مجلس النواب المشاركة بأي حكومة بثابتة وزارة المالية لمن يُسميه إليها.
حزب الله.. يدخل الحكومة
وكما أسلفنا القول، بعد اغتيال الرئيس الحريري في العام 2005، شارك حزب الله جنباً إلى جنب مع حركة أمل، “كثنائي غير قابل للفصل أو الكسر”، في الحكومات المتتالية حتى أيامنا هذه، وفي خطوتهما هذه إقرار بأن ما كان ممكناً في الزمن السوري، حماية أو حصانة، ربما يكون عرضة للاستهداف الداخلي والخارجي على حد سواء، وهذا ما بيّنته التطورات المتلاحقة التي جعلت “الثنائي” يستقيل من حكومة السنيورة الأولى، غداة حرب تموز (يوليو) 2006، وما رافق ذلك من اعتصام في وسط العاصمة وحصار للسراي الحكومي استمر حتى ربيع العام 2008.
في 5 أيار/مايو 2008، كانت المقاومة على موعد مع وضع سلاح إشارتها في العاصمة بيروت على مقصلة الحكومة، فضلاً عن إقالة العميد وفيق شقير من منصبه على رأس جهاز أمن مطار بيروت، مما دفع الحزب، بعد يومين، إلى قلب الطاولة في السابع من أيار/مايو، وهو مسار أفضى إلى “اتفاق الدوحة” الذي كرّس ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وفؤاد السنيورة رئيساً للحكومة ثانية، ولكن محكوماً بمعادلة “الثلث المعطل” التي كانت تحكم كل الحكومات التي تشكلت بين العامين 1989 و2005، بحيث يكون هذا الثلث حصراً بالوصاية السورية.
“الثنائي”.. خارج القرارات الاستراتيجية!
مناسبة هذا الكلام، هو اختلال موازين القوى في أعقاب حرب الإسناد وما آلت إليه من انكسار معادلة الردع التي حكمت المرحلة الممتدة من 2006 حتى 2023. لم يقتصر هذا الخلل على جبهة الجنوب إنما امتد إلى الداخل، وكانت أولى بواكيره، انتخاب رئيس جمهورية وتكليف رئيس حكومة وتسمية وزراء وإعداد بيان وزاري من رحم خطاب القسم، من دون أن يكون للثنائي كلمة الفصل في كل ما ذُكر على جاري العادة القديمة. ومن ثم كرّة سبحة التنازلات، بدءاً من قراري 5 و7 آب (أغسطس) الماضي، لجهة حصر السلاح بيد الشرعية وتكليف الجيش بالمهمة، وليس انتهاء بتكليف السفير السابق سيمون كرم برئاسة الوفد اللبناني في لجنة “الميكانيزم”.. وثمة من يُردّد أن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد.
كرم.. ليس خياراً لبنانياً!
ما تقدم، يطرح العديد من الأسئلة، لا سيما لجهة تجاوز الحزب وعدم الاكتراث بموقفه، لناحية تكليف كرم من دون علمه وحتى من دون علم الرئيس بري أيضاً، الذي اقتصرت معرفته على تطعيم “الميكانيزم” بشخصية مدنية وحسب. حيث كانت كل الأنظار تتجه نحو لائحة تضم عدداً من الأسماء أبرزها اسم الدكتور بول سالم، مدير “معهد الشرق الأوسط” في واشنطن، لكن أتى القرار من “العم سام” وفُرض السفير الأسبق على الجميع من دون استثناء.
ولا شك، أن اختيار هذه الشخصية الإشكالية مع حزب الله وسلاحه، يؤشر إلى مدى قدرة الولايات المتحدة على الفرض من جهة، واستعداد الحكم اللبناني للانصياع من جهة ثانية.
تحصل هذه التطورات الدّالة على مدى تراجع دور “الثنائي” في المعادلة الداخلية، بالتزامن مع سقوط قواعد الاشتباك والردع مع العدو الإسرائيلي، في ظل عدم رد الحزب على الاعتداءات والخروقات الإسرائيلية التي تجاوزت العشرة آلاف منذ سريان اتفاق وقف الاعمال العدائية في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، والتي توّجت مؤخراً باغتيال رئيس أركانه، الشهيد هيثم الطبطبائي.
انتظروا الأسوأ..
هذا يعني، أننا مقبلون على ما هو أسوأ بكثير، في الوقت الذي تبدو فيه حملات التهويل والتهديد بحرب آتية على لبنان، قد نجحت إلى حد بعيد، في إجبار الحزب على الاكتفاء بالاعتراض والتنديد بالاعتداءات الإسرائيلية مهما كانت مؤلمة من جهة، والتنديد أيضاً بقرارات الحكومة اللبنانية، إذا حملت في طياتها تنازلات من جهة ثانية، خصوصاً مع رواج مقولة “ضرورات الأنظمة وخيارات الشعوب”.
هل يُمكن كسر هذا المسار، سواء مع إسرائيل أو في الداخل اللبناني؟
لا يبدو أن ذلك في متناول اليد الآن، والواضح أن حزب الله يُراهن على جنرال الوقت للتعافي بكل معنى هذه الكلمة، سياسياً وتنظيمياً وإدارياً ومالياً وعسكرياً وأمنياً.. وفي الداخل اللبناني صارت كلمة “الأخ الأكبر” هي الأعلى..
في ظل هكذا مسار لن يكون مفاجئاً لأحد أن نستفيق في المقبل من الأيام، على خبر لقاء وزير لبناني ما مع وزير إسرائيلي على هامش مؤتمر أو أية فعالية دولية أو إقليمية، وربما بدون مناسبة، فقط لقاء من أجل اللقاء، خصوصاً أنه ثمة عدد من وزراء الحكومة العتيدة توّاقون إلى لقاء من هذا النوع، لكسر “تابو” العداء مع الكيان العبري بصورة فاقعة، وذلك بعد أن أمست الحوارات الصحفية اللبنانية مع مسؤولين إسرائيليين أكثر من طبيعية، ومشاركة باحثين لبنانيين نظراء لهم من الجامعات العبرية بأبحاث علمية وغيرها..
