غير أنّ اندلاع الحرب الأهلية أدخل فاعلين جددًا إلى المشهد، في مقدّمهم الميليشيات المسلّحة التي أسّست قواعدها الاجتماعية والاقتصادية الخاصة وأفرزت طبقة سياسية جديدة خرجت من رحم الصراع. هذه الطبقة استفادت من اقتصاد الحرب وشبكات الزبائنية والريع وإعادة الإعمار، فانتقلت الزعامة من إطارها التقليدي إلى زعامةٍ ميليشياوية – ريعية متشابكة مع مراكز القوة الداخلية والخارجية. ومع اتفاق الطائف، أُعيد احتضان نموذج «الزعيم – المضيف» بصيغٍ أقوى، إذ تحوّلت موارد الدولة إلى مجال للتقاسم والربح، بدل أن تكون أداة لبناء مؤسسات عامة فاعلة.
على مدى العقود اللاحقة، تآكلت المفاهيم السياسية القائمة على أساس البرامج والكفاءة والمساءلة، لتحلّ محلّها معايير الولاء والمحاصصة والزبائنية. وغدا التوظيف والتعاقد والميزانيات أدواتٍ لتوزيع المنافع وتعزيز الشبكات الزبائنية، فتحوّل الشأن العام إلى وسيلةٍ لجني الأموال واستغلال النفوذ. ونتيجةً لهذا التحوّل البنيوي، تراجعت ثقة المواطنين بالدولة وبالطبقة السياسية، وبات الانخراط في السياسة يُقرأ غالبًا كبحثٍ عن مكاسب وخدمات لا كخدمة للصالح العام.
في هذا المناخ، اكتسبت العادات الاجتماعية – كالولائم والسهرات والصبحيات – وظيفةً سياسية مباشرة؛ فلم تعد مجرّد ممارسات حياتية، بل غدت أدواتٍ لإدارة الشرعية وترسيخ صورة الزعيم. الصورة العامة للسياسي كمضيفٍ كريم وحاضنٍ لأبناء منطقته غطّت على غياب البرامج والقدرات والكفاءات، فتحوّلت السياسة إلى عرضٍ اجتماعي يُعاد إنتاجه في المجالس والصالونات أكثر ممّا تُمارس كعملٍ مؤسسي لصنع القرار. وهنا يبرز سؤال جوهري: كيف انتقل الفاعل السياسي من صانعٍ للدولة إلى مديرٍ لـ«مضافة» عامة تُعاش فيها العلاقات بدل أن تُدار فيها المؤسسات؟
قبل الحرب الأهلية، كان الزعيم أو الاقطاعي وسيطًا بين الدولة والمجتمع؛ يستمدّ شرعيته من شبكة الولاءات، فيما تمنحه الدولة موقع الشراكة والتمثيل. ومع الحرب، صعدت زعامات ميليشياوية بديلة قدّمت الحماية والخدمات، وأدارت الموارد المتصلة بالحرب وإعادة الإعمار. وهكذا تبدّل مفهوم الزعامة من ممثّلٍ محلي إلى قائدٍ حامٍ ومشغّلٍ لشبكة مصالح سياسية – أمنية – اقتصادية.
بعد انتهاء الحرب وولادة جمهورية اتفاق الطائف، جرت محاولات لإعادة بناء الدولة على أسسٍ مؤسساتية، إلا أنّ هيمنة الزعامات التقليدية والميليشيوية وتحالفاتها الطائفية والمناطقية أعاقت قيام دولة القانون. واستمرّت البنية الزبائنية في توزيع المناصب والموارد عبر شبكات «مدّ اليد» من الزعيم إلى أنصاره، فتحوّلت الزعامة من فعلٍ مؤسسي إلى فعلٍ رمزي واجتماعي يُدار بمنطق المَنّ والخدمة. وغدت مجالس الأركيلة والولائم وطقوس الضيافة فضاءاتٍ لتعزيز الصورة والمكانة، لا مساحاتٍ لصياغة السياسات العامة.
في هذا الإطار، يشكّل تمديد ولاية الرئيس إميل لحود مثالًا فاقعًا على تجسّد عقلية «المضافة» في السياسة اللبنانية. فقد جرى التمديد برعاية سورية مباشرة في «خيمة العرب» في البقاع الغربي، حيث اجتمع النواب والمسؤولون المحليون مع ممثلين سوريين لتثبيت القرار. بدت الخيمة كأنها «مضافة» سياسية لإعادة إنتاج الولاءات وتكريس صورة الزعيم، أكثر مما كانت إطارًا لعمليةٍ دستورية تحترم المعايير الديموقراطية. فاللقاء، بطقوسه ومشهديته، عكس ثقافةً تتعامل مع الدولة كامتدادٍ لمكان الولائم والمجالس الرمزية، حيث تتحوّل المناسف والأركيلة ولغة التأييد إلى أدواتٍ لتمثيل السلطة الاجتماعية. يسري ذلك على الرئيس ميشال سليمان عندما كان قائدًا للواء في الجيش اللبناني (في البقاع) على تماس مباشر مع الضابط السوري غازي كنعان في عنجر، فكانت “المضافة” سُلماً للوصول إلى قيادة الجيش ومن بعدها إلى رئاسة الجمهورية.
من هذا المنظور، يمكن فهم كيف تحوّل الشأن العام إلى أداةٍ للولاء والتحكّم، وكيف باتت القرارات السياسية – من التمديد إلى الانتخابات والتعيينات – قائمةً على شبكات منافع شخصية لا على برامج ومؤسسات. السياسة في لبنان غدت امتدادًا لمنطق الضيافة والرمزية الاجتماعية، لذا، تراجعت المساءلة والمؤسسية لمصلحة الزبائنية. وتكاملت ظاهرة «المضافة» مع شبكة خدمات (مدارس، جامعات، مستشفيات، وظائف، مساعدات) تُقدَّم كمنّةٍ من الزعيم، فتُضعِف الحسّ بالمواطنة، وتُفرغ المؤسسات من معناها بوصفها مصدرًا للحقوق لا فضاءً للهبات الشخصية.
بهذا المعنى، تحوّل الشأن العام إلى سوقٍ للولاء والمنافع. هذه البنية التاريخية تُبيّن أنّ ضعف الدولة وارتفاع الفساد وتراجع الثقة ليست ظواهر عابرة، بل نتاج نظامٍ بُني على الولاءات بدل المؤسسات وعلى الخدمات الشخصية بدل الحقوق. في هذا النظام، يصبح «الزعيم» موفّرًا للخدمات، و«الوكيل» أو «السمسار» حلقة الوصل مع المواطنين، فتتحول الزعامة إلى تجارة، والسلطة إلى وسيلة استغلال، لا أداة تنظيمٍ وخدمةٍ للصالح العام.
تتجسّد «المضافة» هنا كفضاءٍ للتوزيع السياسي والاقتصادي، يدير فيه الزعيم الموارد بوصفه مضيفًا يمنح ويمنع، لا كمسؤولٍ مؤسسي يحكم وفق قواعد الشفافية والمساءلة. هذه الذهنية تعمّق مأزق الدولة وتُضعف بنيتها، إذ تقوّض فكرة المرفق العام المحايد لصالح شبكة علاقات شخصية. ومع ترسّخ شبكات الزعامات بعد الحرب، فقد العمل السياسي محتواه الفكري والبرنامجي، وتحولت السياسة إلى شبكةٍ من العلاقات والخدمات الموجَّهة، ما أدى إلى أزمة ثقةٍ متفاقمة بين المواطنين والسلطة وعجز الدولة عن مواجهة الأزمات الاقتصادية والمالية والإجتماعية.
وساهم غياب البرامج الجدية والرؤى الوطنية المشتركة في تحويل الحياة السياسية إلى طقسٍ اجتماعي متكرر. فالولائم والأركيلة والمناسبات باتت أدواتٍ لتثبيت صورة الزعيم وضمان الولاء، بدل أن تكون تفصيلًا هامشيًا في عملٍ سياسي منظم. وهكذا انقلبت السياسة من عمليةٍ مؤسسية تهتم بالقوانين والمشاريع إلى عرضٍ اجتماعي دائم يعكس مكانة الزعيم، وحلّت علاقة «الإعطاء والأخذ» محلّ العلاقة المفترضة بين الدولة والمواطن القائمة على الحقوق والواجبات المتبادلة.
ولم يكن الإعلام اللبناني بمنأى عن ترسيخ هذه الثقافة؛ إذ ساهم في تكريس صورة الزعيم – المضيف عبر التركيز على حياته الاجتماعية كحدثٍ سياسي بحد ذاته، بدل محاسبته على أدائه وبرامجه. ومع الوقت، صار الجمهور يربط السياسة بالكرم الشخصي والظهور الإعلامي لا بالأفكار والمشاريع، فتحوّلت الوليمة إلى رمز للسلطة والأركيلة إلى علامة حضور، بينما تراجع المشروع العام إلى الهامش.
في المحصلة، نحن أمام ثقافة سياسية تمزج بين الولاءات الشخصية والرمزية الاجتماعية واستغلال النفوذ، مع تراجعٍ واضح للأفكار والمشاريع الوطنية. الشأن العام تحوّل إلى مسرح اجتماعي أكثر منه فضاءً لصنع السياسات، ما يفسّر هشاشة الدولة واستمرار أزمة الثقة بين المواطنين والسلطة.
ويبقى التحدي الأكبر اليوم هو في الانتقال من ثقافة «المضافة» إلى ثقافة الدولة؛ من السياسة كطقسٍ اجتماعي واستعراض رمزي إلى السياسة كعملٍ مؤسسي جاد يقوم على القيم والبرامج والمواطنة. هذا التحوّل وحده، إذا تَحقّق على مستوى الوعي والممارسة، يمكن أن يفتح الباب أمام تجاوز مأزق السياسة اللبنانية واستعادة معناها الحقيقي كخدمةٍ عامة لا كوسيلةٍ للظهور والاستتباع والاستغلال.. ما عدا ذلك سيكون الخواء السياسي مناسبة لظهور أكثر من “أبو عمر”، بما بات يُجسّد من عنوان لفئة النصّابين السياسيين وغير السياسيين في لبنان، وعنوان لـ”زمن القناصل”.
