

يجلس هناك، والهواء يحمل رائحة البحر البعيد، وكأنّ الأفق نفسه يهمس له بأسرار الزمن. سنوات الغربة لم تهدم جسده، لكنها منحت روحه عمقًا وفكرًا يقيس كل شيء بعين المتأمل. في عزلته، صارت الكلمات أقل أهمية من الصمت، وكل حركة، وكل نسمة، تحمل معنى يتجاوز اللحظة.
ابتسامته لم تكن مجرد علامة رضا، بل حكمة متأصلة، ودهاء يختبئ في صمت طويل. كان يرى التاريخ ليس كأحداث تُسَجَّل، بل كسلسلة من الخيارات الصغيرة، واللحظات الدقيقة التي يقرأها من يستطيع أن يرى خلف واجهة الواقع. كل حجر في قريته، كل رائحة من الماضي، وكل مفتاح يحتفظ به في يده، صار خريطة روحية تعلّمه الصبر، وتكشف معنى الانتظار، وقدرة الإنسان على تحويل الألم إلى بصيرة، والفقد إلى وعي.
قال بصوت خافت، كأنه يهمس للأفق: “القوة ليست في الخرائط ولا في الأسلحة، القوة الحقيقية في فهم الزمن، في معرفة متى تتحرك، ومتى تنتظر، ومتى تصمت. العزلة تعلّمك أن ترى ما يخفى عن الآخرين، أن تفهم خبايا النفوس، وأن تتنبأ بما قد يخطئ فيه الناس قبل أن يفعلوه”.
في وحدته، بين ذكريات طفولته وهواجس المستقبل، يشبه الشجرة التي تنمو في صخور الحياة، جذورها عميقة في الحنين، وأوراقها متّجهة إلى الضوء برغم كل العواصف. دهاؤه لم يكن مجرد ذكاء سياسي، بل فهمًا لطبيعة الوجود، لحقيقة أنّ الإنسان يعيش بين زمنين، زمن يراه الناس، وزمن آخر يفهمه القلب والذاكرة.
سألته ماذا بعد ما تسمى “خطة دونالد ترامب لوقف الحرب في غزة”، فرد بصوت ثابت:
“7 أكتوبر لحظة مفصلية في تاريخ فلسطين والعرب. ما قبل 7 أكتوبر ليس كما بعده. يجب أن تتناول الأسئلة المتشابكة الحاضر والمستقبل، من اتخذ قرار الحرب؟ هل حُسِبَ حجم الدماء والخسائر”؟
يضيف متحسرًا: “يحيى السنوار، قراءته الخاطئة للواقع الفلسطيني والإسرائيلي والإقليمي والدولي جرّت الويلات على الشعب الفلسطيني، وبدّدت حلم الدولة الفلسطينية المستقلة. مستقبل غزة في مهب الريح. علمتنا التجارب أن الخطابات أضاعت فلسطين أكثر من المشروع الإسرائيلي الاستيطاني بكل إجرامه”.
الوجع الأكبر
منذ النكبة لم يعرف العرب كيف يواجهون إسرائيل إلا بالصوت العالي. كلما قُتِلَت فلسطين، خرجوا بالهتافات؛ وكلما سُلِبَت الأرض، غطّوا العجز بالقصائد. لقد حوّلوا الدم الفلسطيني إلى وقود لخطاباتهم، وإلى لافتات يرفعونها في الميادين.
هزائم العرب لم تكن مجرد محطات في الصراع، بل كانت تحوّلًا للخيبة إلى فولكلور. سُمِّيَت الهزيمة “نكسة” لتبدو أخفّ وقعًا، وسُمِّيَ الانكسار “صمودًا” كي يُسْكِتوا الأسئلة، وسمّوا عجزهم “نصرًا معنويًا” كي يناموا على وسادة الوهم. إسرائيل لم تحتج إلى اختراع انتصاراتها، كانت تكسب الأرض والاعتراف والهيمنة والآن تريد من الجميع الخضوع لها.
الوجع الأكبر هو أنّ القضية الفلسطينية صارت شمّاعة. أنظمة مهزومة أخلاقيًا وسياسيًا اختبأت خلف فلسطين لتبرّر قمع شعوبها، وكي تُلْبِسَ استبدادها ثوب المقاومة. بالمقابل، هناك أنظمة عاجزة تهرب إلى الأمام كي تُبرّر عدم تحمل مسؤولياتها، بينما الفلسطيني العادي، الطفل الذي يُسْحَبُ من تحت الركام، والأم التي تودّع أبناءها واحدًا تلو الآخر، لم يجد هؤلاء سوى صدى الشعارات العربية يطارده عبر الشاشات.
لقد حاربنا إسرائيل ببيانات عسكرية تُذاع عبر المذياع أكثر مما تُتَرْجَمُ بالدم. ورفعوا صورة القدس في المؤتمرات بينما كان الاحتلال يلتهمها حجرًا حجرا. لقد صنعوا من فلسطين أسطورة للتداول الإعلامي، بدل أن تكون معركة حياة أو موت. النتيجة: إسرائيل صارت دولة طبيعية في العالم، والفلسطيني صار لاجئًا أبديًا بلا وطن، ضحية شعارات من ورق.
العار ليس فقط في الهزيمة أمام إسرائيل، بل في تحويل الهزيمة إلى أغنية وطنية تُذاعُ كلما حلّت ذكرى. العار أن تتحوّل دماء الناس إلى أناشيد تُذاعُ في الطابور الصباحي، بدل أن تكون وقودًا لمشروع حقيقي يواجه مشروع الاحتلال.
ولكن في هذه اللحظة، يطفو سؤال العدالة على السطح:
هل كانت هذه المعركة غير المتكافئة لصالح المشروع الفلسطيني، أم أنّ القرار الفردي جعل قضية شعب فلسطين في مهبّ الريح؟ وكيف يمكن لشعب أن يطالب بالعدالة ممن فوّضهم بهذا القرار، بعد أن تحولت بيوته ومدنه ومخيماته إلى أنقاض؟
اختزال الضحايا
في كل حرب تخوضها الشعوب، يبقى السؤال الأعمق هو سؤال الضحايا: من دفع الثمن؟ ومن قرّر؟ ومن تحمّل مسؤولية ما جرى؟ هذا السؤال يطفو اليوم بقوة على أنقاض غزة، حيث يعيش أكثر من مليوني إنسان بين نزوح ودمار وجوع وحصار خانق، بعد معركة وُصِفَتْ بأنّها الأعنف في تاريخ المواجهة مع إسرائيل.
الأخطر هو القرار الفردي أو الأحادي. حين تملك جماعةٌ السلاح وتسيطر على الأرض، تصبح قادرة على اتخاذ قرار الحرب بمعزل عن إرادة الناس. الحرب ليست قرارًا تنظيميًا، بل قرارًا يخصّ مصير شعب بأكمله. هل جرى التشاور؟ هل كان هناك إجماع وطني فلسطيني؟ أم أنّ القيادة السياسية في غزة اتخذت القرار بمعزل عن الكلّ الفلسطيني؟ هنا يطرح سؤال السيادة الشعبية نفسه، هل يحق لجماعة، مهما بلغت مشروعيتها، أن تجعل قضية بأكملها في مهبّ الريح؟
أبشع ما في خطاب الحرب هو اختزال الضحايا في إحصاءات، دون أن يُنظَرَ إليهم كأشخاص. خلف كل رقم قصة إنسان، أسرة تشرّدت، أمٌّ تبحث عن جثمان ابنها تحت الركام. حين تُخْتَصَرُ المعاناة الإنسانية في أرقام، تفقد الحرب معناها الأخلاقي، وتتحول إلى عملية حسابية تخدم سردية سياسية.
ثم يأتي السؤال الأكبر، هل خدمت هذه المعركة المشروع الفلسطيني؟ هل أضعفت إسرائيل فعليًا؟ أم أعادت غزة إلى الوراء عشرات السنين، وعمّقت الانقسام الفلسطيني؟ أيّ مقاومة تفقد بوصلتها الاستراتيجية، وتغرق في حسابات تنظيمية، تتحول إلى عبء على القضية التي تزعم حمايتها.
أمام كل هذا، يطفو سؤال العدالة، العدالة للضحايا الذين سقطوا دون أن يُسْتَشاروا، للنازحين الذين لم يكن لهم رأي، للشعب الفلسطيني الذي يطمح إلى حرية ودولة، لا أن يبقى رهينة بين مشروع احتلال دمويّ ومشروع مقاومة لا يضع الكلفة البشرية في حساباته.
المأساة في غزة لم تعد قضية فلسطينية فحسب، بل صارت قضية إنسانية وأخلاقية تهمّ العالم بأسره. يبقى السؤال الحارق معلّقًا، حماس.. مسؤولة أم ضحية؟ وهل يمكن أن تستمر قضية بحجم فلسطين رهينة قرار جماعة واحدة، أم حان الوقت لإعادة التفكير جذريًا في معنى المقاومة وحدودها، وفي ثمن المعارك التي تُخاضُ باسم الشعوب دون استشارتهم؟