الحرب على الضفة وغزة.. حربٌ واحدةٌ

بينما كانت الأوساط السياسية تترقّب مالآت الجبهة اللبنانية منذ أن نفّذ حزب الله ردّه العسكري في ٢٥ آب/أغسطس الماضي، انتقل العدو الإسرائيلي إلى جبهة الضفة الغربية، وهي جبهة مفتوحة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلّا أنّ تركيز الإعلام على هذه الجبهة لم يكن بمقدار تركيزه على غزة، كون الأخيرة شهدت مجازر مروعة تكاد تكون الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية.

للضفة دلالات رمزية توراتية (يهودا والسامرة) تجعل منها مركز ثقل للوعي الديني الصهيوني. تحدث التوراة عن مملكتين يهوديتين: الأولى، “يهودا”، تقع في منطقة الخليل (جنوب الضفة)؛ الثانية، “السامرة”، تقع في نابلس (شمال الضفة). علاوةً على ذلك، تتوفر للضفة الغربية ميزات طبيعية وجغرافية وزراعية جعلتها هدفاً للمشروع الإسرائيلي التوسعي، منذ العام ١٩٦٧. تشير الإحصائيات إلى أنّ غور الأردن يُشكّل حوالي ٣٠٪ من أراضي الضفة الغربية، وهو يضم نصف أراضيها الصالحة للزراعة. ومن ناحية أخرى، فإنّ مدينة القدس وما تحمله من مكانة ورمزية دينية، تقع في الضفة الغربية، ولهذا السبب جرت وتجري محاولات مستمرة لتهويدها. شكلّت العوامل المذكورة أعلاه أسباباً للهجمة العبرية على الضفة عبر قضم الأراضي وبناء المستوطنات، في خرق فاضح لم تسلم منه مناطق “أ” التابعة للسلطة الفلسطينية، بموجب اتفاقيات أوسلو.

الضفة بين الإنتفاضة الثانية و”طوفان الأقصى”

أنهت الانتفاضة الثانية (٢٠٠٠-٢٠٠٥)، الحالة المقاومة التي نشأت في الضفة الغربية من خلال إجبار السلطة الفلسطينية على تفكيك خلايا “كتائب شهداء الأقصى” وما تلا ذلك من اعتقال للقيادي الفتحاوي البارز، مروان البرغوثي. كان هذا واحد من عناصر مهدّت الطريق لتسلّم محمود عبّاس (أبو مازن) رئاسة السلطة الفلسطينية عقب اغتيال ياسر عرفات، حيث فرضت الادارة الأميركية على عبّاس إحداث تغييرات في بنية الأجهزة العسكرية والأمنية التابعة للسلطة وإبعاد الخلايا المقاومة عن هرمية هذه الأجهزة. واستمرّ بعد ذلك وحتى يومنا هذا مسلسل من التنسيق الأمني المتجسد بملاحقة وتعقب المقاومين أو من تشتبه إسرائيل في انخراطهم بأعمال المقاومة.

وغني عن القول إن حركتي حماس والجهاد الإسلامي متواضعتا العدد والتنظيم في الضفة الغربية، بالمقارنة مع حضورهما الوازن في قطاع غزّة. بيد أنّ حالة الاستكانة والرضوخ للواقع الذي فرضه الكيان بالتعاون مع السلطة في الضفة، كانت تُبدّدها ظاهرة العمليات الفردية بين فينة وأخرى. نذكر منها “انتفاضة السكاكين” في القدس عام ٢٠١٥ في ظاهرة تنامت وأطلقت عليها إسرائيل تسمية “الذئاب المنفردة”.

لقد نجا نتنياهو من محاولات عدّة لخنقه سابقاً سواء في الشارع أو القضاء أو الحكومة. نعم، قد يُشكّل حراك الشارع عنصراً ضاغطاً عليه ولكن من دون الانزلاق إلى مقولة أنّه قد يُنهي الحرب قريباً.. طالما أن الولايات المتحدة تستمر شريكة في قرار الحرب على غزة

وتشير الأرقام الصادرة عن مؤسسات ومراكز بحثية إلى ازدياد في عدد هذه العمليات بين عامي ٢٠١٥ و٢٠٢٣. ووفقاً لإحصائيات مركز المعلومات الفلسطيني، فإن عام ٢٠٢٣ قد شهد نحو ٣٢٦٠ “عملاً مقاوماً نوعياً” في الضفة والقدس، تمثلّت بعمليات تفجير واطلاق نار وطعن واشتباكات إلخ.. تنامي العمل العسكري المقاوم في الضفة دفع بالحكومة الإسرائيلية اليمينية – التي تشكلّت في نهاية العام ٢٠٢٢- إلى محاولة السيطرة على مخيمات الضفة واستهداف بيوت المقاومين وهدمها وإطلاق العنان لأعمال عدائية نفذتها  قطعان المستوطنين (أحداث بلدّة حوّارة؛ ٢٠٢٣)، وما رافقها من إحراق لسيارات وممتلكات الفلسطينيين والعرب والتحريض عليهم.

بالمناسبة، وبالعودة إلى أرشيف الصحف في السادس من تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣ (أي قبل يوم واحد من انطلاق “طوفان الأقصى”)، هاجمت مجموعة من المستوطنين بلدة حوّارة مدعومة بقوة من جيش العدو. هذه الأحداث والوقائع في الضفة الغربية، وتلازمها مع تنامي ظاهرة اليمين الصهيوني المتطرف ممثلاً بايتمار بن غفير وبتلئيل سموتريتش، مهدّت الطريق لتطور وتبلور حالة تنظيمية مقاومة في الضفة.

وتُظهر الوثائق أنّه بدءاً من عام ٢٠٢١ وإلى ما قبل “طوفان الأقصى”، تبلورت في الضفة الغربية التشكيلات العسكرية المحترفة على غرار “كتائب جنين” و”مجموعات عرين الأسود” وغيرهما من المجموعات العسكرية التي تأسست في إطار دفاع أهالي المخيمات والبلدات المستهدفة عن وجودهم..

عملية الضفة.. السياقات والأهداف

أدّى التراخي الدولي في عملية إجبار إسرائيل على وقف حربها على غزة طوال أحد عشر شهراً، وحالة المراوحة التي تشهدها المفاوضات، والضوء الأميركي الأخضر الممنوح لبنيامين نتنياهو للمضي قدماً في حرب الإبادة الجماعية، أدّى ذلك إلى إطلاق الجيش الإسرائيلي في 28 آب/أغسطس، عملية عسكرية خاصة في الضفة الغربية، أسماها “مخيمات صيفية”، إستهدفت مخيمات وبلدات عدّة، في هجوم وصفته الصحافة الإسرائيلية بأنه الأعنف منذ عملية ” السور الواقي ٢٠٠٢”.

وبينما فشل نتنياهو في انتزاع ضوء أخضر من إدارة بايدن بمهاجمة حزب الله، بسبب خشيةً واشنطن من اندلاع حرب إقليمية لا تريدها في موسم الانتخابات الرئاسية، استغلّ نتنياهو الوقت في لعبة أدمن عليها هذا الرجل منذ أن تسلم رئاسة الحكومة لأول مرة في تسعينيات القرن الماضي. وبين قائل إنّ نتنياهو قايض مع الأميركي ثمن عدم التصعيد في الجبهة اللبنانية بتصعيد بالضفة الغربية، وآخر يقول بأنّ نتنياهو لا يريد ضوءاً أخضر أصلاً للإقدام على ما يحلو له بدليل ما فعله بعد السابع من أكتوبر، فإنّ العملية العسكرية الإسرائيلية في الضفة مستمرّة ولا يبدو أنها ستنتهي قريباً اذ أنّ الهجوم لا يستهدف منطقة بعينها أو فصيلاً بعينه، إنما يستهدف الوجود الفلسطيني برمتّه ومحاولة تهجيره إلى الأردن في استنساخ لتجربة الجيش الإسرائيلي ومحاولته تهجير الغزّيين إلى مصر.

إقرأ على موقع 180  Monsieur NON أو ألبير مخيبر (9)

وتجدر الإشارة إلى أنّ مجموع الذين اعتقلتهم قوات الإحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، قد وصل إلى أكثر من عشرة آلاف معتقل، أي أكثر من رقم المعتقلين الذين كانوا في المعتقلات الصهيونية، قبل بدء الحرب. وهذا يستدعي القول إنّ حرباً حقيقية تُخاض على أرض الضفة الغربية، بـ”القطعة” و”عالساكت”، كما يُقال باللهجة اللبنانية المحلية.

تُظهر الوثائق أنّه بدءاً من عام ٢٠٢١ وإلى ما قبل “طوفان الأقصى”، تبلورت في الضفة الغربية التشكيلات العسكرية المحترفة على غرار “كتائب جنين” و”مجموعات عرين الأسود” وغيرهما من المجموعات العسكرية التي تأسست في إطار دفاع أهالي المخيمات والبلدات المستهدفة عن وجودهم

مآلات حرب غزة

في ظلّ انسداد أفق المحادثات السياسية لوقف النار وتعنت نتنياهو بشروطه التقليدية في كل جولة لا بل اختراعه حججاً جديدةً هذه المرة (نموذج التمسك بمحور فيلادلفيا)، وفي ظلّ انشغال الإدارة الأميركية باستحقاقها الانتخابي (٥ تشرين الثاني/نوفمبر)، وحالة الضغط الميداني المستقرّة على شاكلة استنزاف طويل الأمد لجبهات المساندة في لبنان واليمن والعراق؛ عواملٌ يصبح من الصعب التنبؤ معها بقرب انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة. فعلى الأرجّح، أن هذه الحرب ستستمرّ إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية وتسلّم رئيس جديد مقاليد السلطة، في كانون الثاني/يناير من العام القادم.

هل ما حدث مساء يوم السبت الماضي لناحية اكتشاف جثث ستة رهائن مقتولين في غزة، أحدهم يحمل الجنسية الأميركية، يُمكن أن يُشكّل نقطة تحول في مسار الضغط الشعبي على حكومة نتنياهو؟

صحيح أن تل أبيب، شهدت في الليلتين الماضيتين، تظاهرات شعبية إحتجاجية هي الأوسع منذ أحد عشر شهراً، ترافقت مع انضمام النقابات العمالية في تنفيذ إضراب مؤازر لحركة احتجاج أهالي الأسرى. إلا أن نتنياهو وحكومته تمكنوا من التملص حتى الآن من استحقاق 7 أكتوبر التاريخي فهل يُمكن لحالة شعبية إعتراضية في الداخل الإسرائيلي أن تكسر الإستعصاء السياسي وتفرض وقائع جديدة؟

لقد نجا نتنياهو من محاولات عدّة لخنقه سابقاً سواء في الشارع أو القضاء أو الحكومة. نعم، قد يُشكّل حراك الشارع عنصراً ضاغطاً عليه ولكن من دون الانزلاق إلى مقولة أنّه قد يُنهي الحرب قريباً.. طالما أن الولايات المتحدة تستمر شريكة في قرار الحرب على غزة.

Print Friendly, PDF & Email
عطالله السليم

كاتب وباحث سياسي

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  توقيف رياض سلامة.. قضاء لبنان "يستثمر" الغطاء الدولي المفقود!