شراكة دمشق مع واشنطن بمواجهة حزب الله.. إلى متى تصمد؟

في الأسابيع الأخيرة، بدا أنّ المبعوث الأميركيّ توم برّاك يرفع منسوب الضّغط على لبنان بخطابٍ مزدوجٍ يجمع بين التّشديد على «نزع سلاح حزب الله» والدّعوة إلى «إصلاحاتٍ اقتصاديّةٍ ومؤسّسيّةٍ عميقةٍ»، وبين التّحذير من أنّ «العالَم سيمضي قُدُماً إنْ لم يتحرّك لبنان سريعاً». تلك الّلهجة الحازمة في التعامل مع الملف اللبناني لم تكن مجرّد رسائل دبلوماسيّةٍ عابرةٍ، بل إعلاناً صريحاً بأنّ واشنطن «لن تبقى إلى ما لا نهاية» وأنّها «لا تطلب سوى مصافحةً متكافئةً» بين لبنان وإسرائيل تمهيداً لتسويةٍ شاملةٍ، في ترجمةٍ عمليّةٍ لطموحات رئيس الولايات المتّحدة دونالد ترامب.

غير أنّ التطوّر الأبرز جاء مع إعلان المبعوث نفسه أنّ «دمشق ستساعد بنشاطٍ في مواجهة وتفكيك بقايا داعش والحرس الثوريّ الإيرانيّ وحماس وحزب الله». هذه العبارة، التي بدت للوهلة الأولى مجرّد إشارةٍ تكتيكيّةٍ، قلبت موازين كانت تُعَدُّ راسخةً في الإقليم. فاعتبار سوريا الجديدة شريكاً في مكافحة “ميليشيات مسلّحة” ووضع حزب الله و”داعش” في الخانة نفسها، هو بمثابة اتهام للنظام السابق ليس بتبني حلفاء مثل حزب الله والحرس الثوري، وهو كان يُجاهر بالتحالف معهما، إنما اتهامه بأنه كان لسنواتٍ رافعةً لوجستيّةً أساسيّةً لشّبكات إرهابية مثل “القاعدة” و”داعش”، وفي ذلك مفارقة كبيرة، لا سيما وأن الرئيس الانتقالي الحالي أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) كان أحد أبرز محاربي النظام السابق وتبين أنه كان يمد خطوطه مع الغرب طوال المرحلة السابقة، إلى حد تدريبه على احتلال دمشق وتسلم الحكم فيها، والأهم من ذلك أن النّظام الجديد التزم مسبقاً بأخذ موقعه ضمن الخارطة الإقليميّة الجديدة بعنوان “الشرق الأوسط الجديد”. وهذا التحوّل يفتح الباب أمام اصطفافاتٍ جديدةٍ، ويجعل من دمشق لاعباً قادراً على ترجيح كفّة التوازنات بين محور المقاومة من جهة وحلفاء واشنطن في المنطقة من جهة ثانية.

وعلى المستوى الجيوسياسيّ الأوسع، فإنّ انضمام سوريا إلى ما وُصف بـ«الجهد العالميّ لتأمين السّلام» يحمل دلالاتٍ تتجاوز حدودها الجغرافيّة. فمحور المقاومة التّقليديّ يفقد بذلك ركناً مركزيّاً من ديناميّة «العمق الخلفيّ» الذي اعتمدت عليه إيران وحزب الله منذ اندلاع الحرب السّورية عام 2011، لا بل منذ انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979 ووقوف نظام حافظ الأسد إلى جانب طهران سياسياً في مواجهة الحرب التي شنها نظام صدام حسين البعثي في العام 1980 ضد النظام الإيراني الوليد حديثاً. وإذا التزمت دمشق هذا المسار فعلاً، فإنّ خطوط الإمداد ستواجه تجاذباً وضغطاً متزايدين، بما ينعكس مباشرةً على قدرة حزب الله على التّمويل والتّسلّح، ويضعه أمام تحدٍّ وجوديٍّ في تحديد موقعه ضمن الخريطة الجديدة للعلاقات الإقليميّة.

هل يؤشّر خطاب توم برّاك إلى مرحلةٍ جديدة من الانخراط الأميركيّ في الملف اللّبناني، بعد أعوامٍ من الحذر والتريّث، أم أنه بداية انكفاء أميركي عن ملف لبنان لمصلحة كل من سوريا وإسرائيل وهل يُريد توم برّاك بتصريحاته إزاحة الأنظار عن قضية جيفري ابستاين الذي قتل في زنزانته في العام 2019 بعدما كان يواجه تهما بالاتجار بالبشر لأغراض جنسية غير شرعية؛ القضية التي يُشتبه بتورط العديد من القادة بها.. وأحدهم دونالد ترامب؟

لكنّ هذا التحوّل السّوري لا يمكن فصله عن احتمالات المقايضات التي ترافقه. فثمّةً من يرى أنّه ثمرة اتفاقاتٍ غير معلنةٍ تتضمّن رفعاً تدريجياً للعزلة السّياسيّة وإعفاءاتٍ اقتصاديّةً مقابل تعاونٍ أمنيٍّ واسعٍ مع الولايات المتحدة وحلفائها وتوقيع اتفاقية أمنية مع إسرائيل ووضع ميدانه بتصرّفها، فيكون الضّغط الإسرائيليّ على لبنان من بوابة الجنوب، والضّغط السّوري من بوابة البقاع في محاولةٍ لقلب موازين الميدان اللبناني برمّته. وهذه المعادلة تضع القيادة السّورية الجديدة أمام امتحانٍ دقيقٍ بين المحافظة على الشّرعية التي اكتسبتها، وبين تلبية اشتراطات المجتمع الدولي الجديد الذي يسعى إلى إعادة صياغة قواعد اللّعبة في الشّرق الأوسط. ومن هنا يبرز السّؤال الجوهريّ حول مدى استمرارية هذا الالتزام السّوريّ إذا ما حصل تغيّرٌ ما في موازين القوى مجدّداً على الأرض؟

أما في لبنان، فيبدو أنّ المشهد الداخليّ مرشّحٌ لإعادة تشكّل عميقةٍ. فمن دون «العمق السّوري» الذي مثّل طيلة سنواتٍ سنداً سياسيّاً وعسكريّاً، سَيُضْطَرُّ حزب الله إلى إعادة تعريف دوره. فإمّا أن يعزّز حضوره السّياسيّ التّقليديّ ضمن مؤسّسات الدّولة، أو يسعى إلى تحصين ما يملكه من سلاحٍ داخل الحدود اللّبنانيّة. في المقابل، تمنح التطوّرات الجارية واشنطن والأطراف العربيّة ما يشبه «الفرصة الذّهبية» للضّغط من أجل قلب موازين القوى، وفرض وقائع جديدةٍ على الأرض وعلى السّلطة اللبنانيّة، مستندةً إلى تراجع المزايا التّفاوضيّة والتّفاضليّة للحزب. ومع ذلك، يبقى تاريخ السّياسة اللّبنانية حافلاً بقدرة الطّبقة الحاكمة على ممارسة «الإنكار والالتفاف والمماطلة»، وهو ما تعرفه الإدارة الأميركيّة حقّ المعرفة وحذّر منه توم برّاك نفسه في أكثر من مناسبةٍ، حين أشار إلى أنّ «الوقت ينفد، والعالم لن ينتظر».

ويتداخل هذا كلّه مع ملفّاتٍ حسّاسةٍ أخرى، كترسيم الحدود البرّية والبحريّة وسوق الغاز في شرق المتوسّط، إلى جانب الاستحقاقات الدّستورية المقبلة، وعلى رأسها انتخابات 2026. وفي هذا السياق، يُعطي تصريح توم برّاك لحزب الله المشروعية أمام جمهوره، فالاستهداف من الجنوب لم يعد شعاراً بل هو واقع معيوش منذ وقف اطلاق النار مع إسرائيل قبل سنة من الآن، ومن الشمال والشرق، هو تراكم يُعبّر عن نفسه كل فترة بتوترات حدودية.. والآن ثمة ما يشي بأن يكون الحكم السوري الجديد رأس حربة في الإطباق على الحزب شمالاً وبقاعاً. هذا الشعور المزدوج بالاستهداف يجعل الحزب في الانتخابات النيابية المقبلة أمام فرصة حصد أعلى نسبة أصوات في بيئته المستنفرة، وبالتالي التمسك بإجراء الانتخابات في موعدها الدستوري المقرر، أي في أيار (مايو) المقبل، وهو الأمر الذي نادى به في الساعات الأخيرة رئيس مجلس النواب نبيه بري.

إقرأ على موقع 180  هل دخل لبنان مرحلة ما بعد الطائف؟

في المقابل، يُصبح السؤال هل هناك قرار دولي وعربي جدي بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها الدستوري، أم أن الأولوية لشعار حصرية السلاح بحيث لا يتقدم عليه أي شعار، وبالتالي تصح فرضية الانتخابات يجب أن يسبقها نزع سلاح حزب الله، ما يضع فرضية التمديد كورقة ضغط يُمكن استخدامها لرفع منسوب الضغط على حزب الله.

ومع كل هذه التشابكات، يظلّ المشهد مفتوحاً على احتمالاتٍ متناقضةٍ تثير سلسلةً من الأسئلة الملحّة: هل تصمد «شراكة دمشق الجديدة» مع واشنطن بوجه الضّغوط الإيرانيّة، أم تتراجع أمام أوّل اختبار ميدانيّ؟ وإلى أيّ حدٍّ يستطيع حزب الله التكيّف مع تقلّص عمقه الاستراتيجيّ من دون اللّجوء إلى تصعيدٍ داخليٍّ أو حدوديٍّ؟ وهل تلتقط النّخب اللبنانية فرصة تراجع نفوذ السّلاح لتمرير أجنداتها والإصلاحات، أم يتكرّر نمط «تقطيع الوقت» بانتظار متغيّراتٍ ما؟ ثمّ ما تأثير هذه المتغيّرات على الاستحقاق الانتخابي في 2026، وهل يُسْتَخْدَمُ عامل التوتّر الأمنيّ ذريعةً لتعليقها أم للإصرار على تأجيلها؟ وإذا تردّدت بيروت في حسم خياراتها، هل يمضي العالم فعلاً «ويمرّ من دونها» كما حذّر توم براك، أم تُفتح نافذة إنقاذٍ جديدةٍ بشروطٍ أشدّ قسوةً؟ وهل يؤشّر خطاب برّاك إلى مرحلةٍ جديدة من الانخراط الأميركيّ في الملف اللّبناني، بعد أعوامٍ من الحذر والتريّث، أم أنه بداية انكفاء أميركي عن ملف لبنان لمصلحة كل من سوريا وإسرائيل وهل يُريد توم برّاك بتصريحاته إزاحة الأنظار عن قضية جيفري ابستاين الذي قتل في زنزانته في العام 2019 بعدما كان يواجه تهما بالاتجار بالبشر لأغراض جنسية غير شرعية؛ القضية التي يُشتبه بتورط العديد من القادة بها.. وأحدهم دونالد ترامب؟

 

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  المعادلة السورية الصعبة.. دولة قوية موحدة في قلب الفوضى!